السيد ولد أباه 

في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «أتخيل: ابن رشد والمجال الكامن»، يقدم الباحث الفرنسي «جان بابتست برنت» قراءة جديدة للرشدية من منظور موقعها في مسار سردية الذاتية التي هي محور الحداثة الفلسفية. صحيح أن ابن رشد ظل دوماً وجه العقلانية والنقدية في الفكر العربي الحديث، خصوصاً في تصوره للعلاقة بين الفلسفة والشريعة الذي رأى فيه الكثيرون مدخلاً تراثياً مقبولاً للتمييز بين العقل والشرع من حيث المنهج والجمع بينهما من حيث المقصد والغاية، وذلك المسلك هو الذي أطلق كبير الرشديين المعاصرين المفكر المغربي الراحل «محمد عابد الجابري» مقولة «النزعة الإكسيومية» لدى ابن رشد.

بيد أن ابن رشد هو أيضاً الوجه الأبرز في «الأرسطية» الوسيطة وكبير شراح ابن رشد، وإليه يرجع الفضل في تقديم كبير فلاسفة اليونان إلى العصر الوسيط اليهودي واللاتيني، ومن هذا المنظور كثيراً ما نُظِر إليه كمتعصب أعمى لأرسطو، ومن هنا الجدل الكبير الذي خلفته أطروحاته الفلسفية في اللاهوت المسيحي، خصوصاً في أعمال «توماس الأكويني». ومن أكثر أطروحاته استفزازاً للاهوت الوسيط نظريته في العقل المنفصل عن الإنسان، بحيث تنتفي العلاقة المباشرة بين الذات الواعية والتصورات العقلية التي مصدرها العقل الوجودي لا العقل الأداتي الفردي، وتلك أطروحة لا يمكن أن تستسيغها الرؤية المسيحية التقليدية المتمحورة حول عقيدة التجسد.

أهمية أطروحة «برنت» هي القول إن ابن رشد بلور تصوراً للذاتية جديداً حتى بالمقاييس الأرسطية، يفتح المجال أمام ثورة معرفية كبرى لئن اتفقت مع ديكارت في السردية الكبرى، إلا إنها تختلف معها في طبيعة العلاقة بين العقل والحس وبين العقلانية الفردية والعقل الجماعي. والواقع أن «الثورة الرشدية» هي في حقيقتها صياغة تأليفية لجوانب شتى واتجاهات كبرى في التقليد الإسلامي في مكوناته الكلامية والفلسفية، بما يحملنا على مراجعة الصورة السائدة عن علاقة ابن رشد بالمتكلمين الذين ينتقدهم بشدة في «مناهج الأدلة» وبالفلسفة السينوية والغزالية التي ينتقدها في شروحه الأرسطية وفي كتاب «تهافت التهافت».

ما يبدو جلياً من دراسة «برنت» هو أن ابن رشد وإن تبنى جوهر الأنطولوجيا الأرسطية، إلا أنه صدر في نزعته التأويلية عن اهتمامات إسلامية صرفة، تبرز بوضوح في مسألتين أساسيتين هما: مكانة الخيال في المعرفة وفي المنظور الجماعي المعياري للتعقل. أما المسألة الأولى فتتمثل في قوله بأن العقل، وإنْ كان وجودياً منفصلاً عن الإنسان إلا أن مسار التعقل يمر حتماً بالإحساس والتخيل، أي بالجانب الجسدي النفسي من الذات البشرية، فهو بهذا المعنى أفق مفتوح وطاقة كامنة في حين أن المعرفة لا تكتسب وتتفرد إلا بوساطة الخيال الذي ليس وهماً، بل هو مادة «الفكر» وأرضيته. هذا التصور للخيال الخلاق ليس خاصاً بابن رشد، بل هو مشترك بين فلاسفة الإسلام من الفارابي وابن سينا إلى فلاسفة الإشراق والمتصوفة، لكن خصوصية المقاربة «الرُّشدية» تتمثل في ما يبنى عليه من منهج تأويلي يبدو ظاهراً في جمعه بين بُرهانية الفلسفة وبيانية الشريعة، التي ليست مصدر نقد ما دام عموم البشر ينقاد بالمثال لا المفهوم، وما دام نظام الاجتماع المدني يحتاج إلى الخيال والمثال.

أما المسألة الثانية فتكمن في القول إن أي إمكانية للتعقل الفردي الذاتي مستحيلة، فمسار العقل الذي يسلك مسلك التخيل والإحساس هو مسار جماعي لا مكان فيه لتجربة الانفصال عن العالم للوصول إلى اليقين الذاتي (الأطروحة الديكارتية)، ومن هنا يفسح ابن رشد المجال للمفهوم الحواري النقاشي للعقل العمومي. هذا المنظور الجماعي للعقل بارز بقوة لدى المتكلمين في نظرتهم للإيمان كعقيدة عملية مشتركة وفي تصورهم لمركزية الجماعة تشريعاً وتأويلاً، ومن ثم يتعين عدم المبالغة في رفض ابن رشد لعلم الكلام الذي لئن انتقده إبستمولوجياً من منظوره للعقلانية البرهانية، فإنه يعتبره ممارسة تأويلية ضرورية يقتضيها الاجتماع المدني والسلم الأهلي. هل يمكن في ضوء هذه المقاربة الجديدة لـ«الرشدية» الخروج بتصور لإمكانات مجهضة في الحداثة الإسلامية التي ما زالت أفقاً منتظراً ومنشوداً؟