وليد أبي مرشد

 كان ملجأ أقليات مذهبية محكومة بالتعايش بوئام على مساحته الضيقة من الحريات الدينية والمعتقدية، مكتفية بالخلاص من اضطهاد الجوار وسلطاته الجائرة.

هكذا كان لبنان في بدايات وجوده الجغرافي... وهكذا يفترض أن يبقى ليظل جزيرة للحريات والديمقراطية في منطقة مضطربة معظم الأحيان. ولكن المؤسف أن يتحول، شيئاً فشيئاً، إلى دولة «جوار» أخرى فيما الشرق الأوسط يُردّ إلى أرذل العمر.
لافت، على هذا الصعيد، أن تكون دوافع الشبه مع دول الجوار تَحلُّل بعض أقلياته الدينية من «روحية الأقلية» والتصرف بذهنية «الأكثرية ضمن الأقلية».
هذه الظاهرة شاهدناها فيما سمي «المارونية السياسية» وتلوح اليوم في خطاب «الشيعية السياسية».
مسيرة المارونية السياسية حطّت رحالها في مؤتمر الطائف بعد أن زجت لبنان في حرب أهلية مدمرة دامت خمس عشرة سنة. ورغم أنّ فشلها يعود إلى أكثر من سبب محلي وإقليمي، فإن السبب الأبرز يظل شنّها في غير زمانها وغير مكانها أيضاً.
لا جدال في أنّ الديمقراطية نظام سياسي دخيل على لبنان. ولكنّ تعددية المجتمع اللبناني (ثمانية عشر مذهباً معترفاً به رسمياً)، سهلت تبنيه كأسلوب حياة يومية. لذلك، إذا كان ثمة تمايز بين لبنان وجواره فهو يعود إلى تراثه السياسي - الاجتماعي قبل أي عامل آخر.
من هنا ضرورة التساؤل عن جدوى تسويق ظاهرتين سياسيتين لا تنسجمان مع ذهنية لبنان الاجتماعية ولا تراثه السياسي: ترويج «حزب الله» لنظام الولي الفقيه، ودعوة التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية إلى «وحدة مسيحيي لبنان».
بالنسبة لـ«حزب الله»، ولاية الفقيه جزء لا يتجزأ من عقيدة (دوغما) الحزب الأصولي، والتخلي عنها بمثابة تنكّر للذات... ولكنّ الترويج لها في لبنان، وإن في إطار مقاومة وطنية، يوحي بأنّ «حزب الله» يدعو إلى «أوتوقراطية» المذهب الواحد في دولة الثمانية عشر مذهباً، بصرف النظر عن تداعيات تطبيقها ومخاطرها.
وبالمقابل، ورغم أن حزبي «وحدة المسيحيين» في لبنان مبرران في تحسبهما لمصير مسيحيي الشرق الأوسط في ظل الظروف الراهنة في المنطقة، ورغم الجاذبية الانتخابية لهذا الشعار، فإنه قد كان أولى بحزبين مؤمنين «بالسيادة الوطنية» أن يقاربا موضوع حماية المسيحيين من منطلق تعددي، لا فئوي، يعزّز مفهوم دولة الأقليات ويضعه في إطار المطلب الوطني.
هذا على الصعيد المبدئي؛ أمّا على الصعيد العملي، فقد استنفد هذا الشعار غايته بوصول العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة، بدليل أنّ التيار الوطني الحر يستعمله شماعة يعلق عليها خلافاته المكتومة مع حزب القوات اللبنانية.
غني عن التذكير أنّ لبنان لم يجنِ من التكتلات السياسية الطائفية سوى الاقتتال الأهلي. وإذا كانت أولوية الحفاظ على «الوحدة المسيحية» تتقدم اليوم على أي اعتبار آخر لدى الحزبين المسيحيين، فقد آن الأوان لأن تثبت «القوات اللبنانية» أنّ حرصها الثابت على سيادة لبنان على كلّ أرضه، يتجاوز الاعتبارات المذهبية، فتبدأ بالتحرر من قيود هذه الوحدة المذهبية المجحفة بحقها، أو على الأقل ممارسة تكتيك الرئيس نبيه بري في مقاربته للتيار الوطني الحر بمنطق «حليف حليفي»؛ علماً بأنّ تأكيد رئيس «القوات اللبنانية»، سمير جعجع، قبل أيام معدودة، التزام حزبه بـ«روحية 14 آذار» الباقية رغم تبدل العهود... تأكيد واضح على أنّ اعتبارات السيادة اللبنانية أولوية تتقدم أي اعتبار «سياسي» آخر في أجندة الحزب. هذه النقلة النوعية من رواق «الوحدة المسيحية» إلى رحاب الوحدة الوطنية يُفترض أن تتبلور قبل مواجهة لبنان للمناخ السياسي المقبل: مناخ المواجهة المرتقبة بين «السياديين» - بكل أحزابهم - و«الاستباحيين» لحدود لبنان الجغرافية.