راغدة درغام

يقلق جزء من أهل الخليج من سمعة أميركا القائمة على جاهزيتها للاستغناء عن الأصدقاء والحلفاء– باستثناء إسرائيل. ويطمئن جزءٌ آخر من أهل الخليج في ظل استعادة العلاقة المميزة بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة، وهو يعتقد أن عند دول المجلس خصائص مميزة وأن لا مجال للاستغناء عن العلاقة المميزة لأنها متشعبة وموجودة على الصعد كافة، من البيت الأبيض إلى الشركات الأساسية التي هي جزء من «المؤسسة» الحاكمة فعلياً في الولايات المتحدة، مروراً بما يسمى «الدولة العميقة» بكل ما فيها، انتهاءً بالعلاقة الاستراتيجية المتصلة بنواحي النفط والسلاح.

المسألة تتطلب تبادل الآراء بشفافية. ذلك أن ما يحدث لا يؤثر في مجلس التعاون الخليجي، وإنما في كل الشرق الأوسط، وبالذات في المنطقة العربية. المعادلة الاستراتيجية في موازين القوى الإقليمية تتأثر جذرياً بمصير دول الخليج، وكذلك كل شعوب المنطقة. 
إيران تعمّق وزنها في موازين القوى الإقليمية. تركيا تبقى ذات وزن إقليمي على رغم ما تمر به من تقلبات واختبارات مصيرية. إسرائيل خائفة من الاستفادة في موازين القوى الإقليمية بفضل علاقاتها النوعية مع الولايات المتحدة التي تحميها وتدعمها وتضمن تفوقها الاستراتيجي، وكذلك بفضل التشتت العربي والصراع بين السنّة والشيعة، والذي يحدث في الجغرافيا العربية. 

أما العرب، فإنهم يبحثون عن وزنٍ لهم في موازين القوى الإقليمية بعدما تم نسف العراق من المعادلة الاستراتيجية العربية– الإسرائيلية أثناء حرب جورج دبليو بوش على العراق، ومن خلال تحويل سورية إلى دولة تجاذبات ورهينة للمقايضات الدولية والإقليمية.

أحد كبار المصرفيين الذي سبق أن درس في جامعة هارفارد مع مسؤول أميركي سابق رفيع نقل عنه قوله أن الشرق الأوسط سيبقى منطقة مشتعلة بالحروب والمعارك والصراعات.

ليس مستغرباً أن تكون هذه هي حال التفكير الأميركي البعيد المدى والقريب المدى. هذه دولة عظمى تعنى بمصالحها، بلا اعتذار. فإذا كانت المصلحة القومية تقتضي حرمان العرب من أموالهم عبر اختلاق الصراعات والعداوات والأعداء، فليكن. هكذا هو القرار الاستراتيجي الذي يتخطى إدارة هذا الرئيس الأميركي أو ذاك. إنها السياسة البعيدة المدى مهما كُلِّف هذا الرئيس هذا المسار أو ذلك الرئيس تلك المهمة. قد يحتجّ البعض ويتحدث عن أهمية الديموقراطية. لكن واقع الأمر أن ملامح الديموقراطية الأصيلة صارت تبهت في الساحة الأميركية بسبب تآكل استقلالية الإعلام كما بسبب تسلط لوبي المصالح الكبرى على العملية الانتخابية.

هذا لا يعني أبداً أن المصلحة العربية تقتضي الانفصال عن الولايات المتحدة أو العداء معها. فروسيا ليست الدولة الكبرى البديل عن الولايات المتحدة، لا كحليف دائم أو كشريك استراتيجي. 

روسيا دولة تمشي بحذر على الحبل المشدود مع الولايات المتحدة التي تضعها في طليعة التطلعات نحو علاقات ثنائية مميزة. إيران التي جعلت من أميركا ذلك «الشيطان» لعقود، تصبو أكثر ما تصبو، إلى علاقات تهادنية وتطبيع مع الولايات المتحدة، ولو تطلب ذلك المزيد من التهادنية العلنية مع إسرائيل. فلا ضرورة عربية أو خليجية للاعتذار عن العمل الدائم طيلة عقود على علاقة مميزة مع الولايات المتحدة.

ما تحتاج إليه الدول العربية، هو التنبه إلى قصر عمر الذاكرة الأميركية عند حسن العمل، وطولها عند سوء الفعل. بكلام آخر، الذاكرة الأميركية، الشعبية والحكومية، تربط الإرهاب الذي وقع في الدار الأميركية في 11 سبتمبر قبل 16 عاماً بالسُنَّة العرب. 

قد يتحدثون عن الحقوق المدنية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان كعامل أساسي لانتقاد دول عربية أو خليجية، لكن الأميركيين لا يسلخون عن عاطفتهم ما اعتبروه إرهاباً عربياً في عقر الدار الأميركية، يضاف إلى ذلك أنهم ينظرون إلى الشرق الأوسط بمنظار إسرائيل، ويعتقدون بأن السُنَّة عموماً والعرب خصوصاً في عداء مع إسرائيل ولن يقيموا السلام معها– بصرف النظر عن الواقع الجلي وهو المبادرة العربية للسلام مع إسرائيل.

إسرائيل ستعطّل على إدارة ترامب محاولاتها القائمة على تعديل المبادرة العربية للسلام وتغييرها بمزيد من التنازلات، ذلك لأن إسرائيل لا ترى أن في مصلحتها أن يتحول العرب والسُنَّة خصوصاً إلى الطرف الراغب والمستعد للسلام معها، فالمصلحة الإسرائيلية تقتضي استمرار العداء وتصوير العرب بأنهم المعتدي الرافض السلام. السلام يُفقِر إسرائيل. العداء يبقيها الطفل المدلل لدى الولايات المتحدة. وهذا يتطلب قطع الطريق على كل المحاولات الأميركية– عبر شتى الإدارات– لصنع السلام على أساس حل الدولتين الذي رفضته إسرائيل منذ البداية، لأنه لا يحل المشكلة الديموغرافية التي يشكلها الفلسطينيون داخل إسرائيل. فهي دائماً أصرّت على أن الأردن هو الوطن البديل لهم.

إسرائيل تفضّل أن تبقى على علاقة تهادنية مع إيران لأنها ترى أن مصلحتها تقتضي الشراكة مع طهران في العداء المشترك نحو السُنَّة العرب. اختلاق أزمة الأقصى أخيراً هو جزء من استراتيجية احتواء أي حماسة عربية خليجية لاحتضان طروحات إدارة ترامب، ذلك أن الأقصى هو أقصر طريق لمنع القيادة العربية من الإقبال على مزيد من التنازلات أمام إسرائيل. وطالما أن الولايات المتحدة لا تتخذ قراراً جدّياً بفرض السلام على إسرائيل، لن تجدي أي تنازلات عربية، وحتى فلسطينية.

هذا لا يعني أن على العرب التراجع عن سياسة «الهجوم السلمي» على إسرائيل بشراكة مع الولايات المتحدة مهما كانت وهمية، طالما أن العلاقة الأميركية– الإسرائيلية عضوية وليست فقط تحالفية.

الأزمة الخليجية مع إيران لا علاقة لها بفلسطين ولا بإسرائيل لأن طهران تبيع الكلام المعسول لـ «القضية الفلسطينية» وتستخدمها لتوطيد قدمها في الأرض العربية أولاً، ومن أجل إحراج العرب، ثانياً، وقد يكون القرار الخليجي بالنسبة إلى القضية الفلسطينية أن لا خيار أفضل من تشجيع أي مبادرة أميركية ودعمها والشراكة معها بدلاً من الاستنفار والاستنكار.

المطمئنون من أهل الخليج يرون أن كامل العلاقة الخليجية مع الدول كافة المعنية بموازين القوى الإقليمية (تركيا، إيران، إسرائيل) هي تفصيل في الملف الأساسي وهو العلاقات الأميركية– الخليجية التي تحوّلت من الفتور المخيف في عهد باراك أوباما إلى الدفء المريح في زمن دونالد ترامب. هؤلاء يؤمنون بأن صمام الأمان للخليج في واشنطن بغض النظر عن المشكلات التي يواجهها ترامب داخلياً. إنهم مقتنعون بأن أي كلفة مالية أو سياسية مهما كانت ضخمة هي ثمن معقول من أجل الأمن الخليجي البعيد المدى.

القلقون من أهل الخليج يخشون الذاكرة الأميركية ويتخوفون من إسقاط دونالد ترامب من السلطة بصورة أو بأخرى، فتكون تلك الاستثمارات فيه هدراً. هؤلاء يريدون إعادة لم شمل الدول الخليجية. ويرون أن الوضع أكثر أماناً في سعي جدي إلى إصلاح العلاقات مع إيران وإن تطلّب ذلك تنازلات، لاسيما أن الرئيس حسن روحاني يحاول أن يسترجع الحكم في طهران من «الحرس الثوري» صاحب أجندة الهيمنة الإيرانية والتدخل في الجغرافيا العربية، وأن روحاني قد يرث موقع مرشد الجمهورية، علي خامنئي.

محادثة أهل الرأيين ضرورية من أجل مستقبل الخليج. القمة الخليجية المقبلة يفترض أن تُعقد في الكويت في كانون الأول (ديسمبر) واللجان لا تجتمع حالياً بسبب الأزمة القطرية. حان الوقت لتوسيع الرقعة من اللجان التقليدية إلى لجنة فكرية تضم خليجيين وعرباً آخرين من رموز الفكر الاستراتيجي، لبدء حديث بنّاء ووضع تصوّر رؤيوي يأخذ في الحساب مشاغل القلقين وتشاؤمهم وكذلك اندفاعة المطمئنين وتفاؤلهم، ليس للسنوات الخمس الآتية، وإنما تصور رؤيوي لدول مجلس التعاون الخليجي بعد عشرين سنة، وأيضاً لتركيا وإيران وإسرائيل.