أحمد جابر

لن تستطيع كل الحشود التبريرية الكلامية أن تجمِّل وجه المشاركة في القتال في سورية، والنظريات السياسية التي تشرح دوافع الدخول على خط الصراع الأهلي السوري، مصابة بالعطل المذهبي أولاً، وبالتهافت السياسي ثانياً. أما الحديث عن فوائد الحرب الاستباقية التي منعت وصول «الإرهابيين» السوريين إلى داخل المدن والقرى والأحياء، فحديث تدحضه مجريات الصراع السوري الذي بدأ سلمياً، والذي حاول جمهوره أن يبقيه على جادة السلمية، لكن السلمية تعذرت بسبب سياسة النظام السوري الهجومية، أي السياسة التي سانده فيها وانضم إليها، قادة الحرب الاستباقية اللبنانية. من ضمن الافتراض، وعلى سبيل تقديم المثل: المشاركة القتالية الوحيدة المطلوبة والواجبة في سورية، هي تلك التي تدافع عن الكيان السوري، لو تعرض هذا الكيان للهجوم الخارجي، الصهيوني أولاً والتركي ثانياً.

المشاركة في هذه الحرب التي لم تقع، هي واجب عربي تقدمي، وهي واجب وطني لبناني، وفي هذا المعرض يجب التكرار، أن العروبة ستظل عنصراً داخلياً تكوينياً في كل بلد عربي، وستظل اللحمة الجامعة التي لا تسقط بشبهة الطائفية أو العرقية أو الشوفينية أو الاستبداد. 

ولنقل استطراداً، لقد احتلت الأرض السورية عام 1967، وما هو منها تحت الاحتلال اليوم ينعم بهدوء التزمه النظام السوري الممتد في الزمان، والجولان المحتل لا يذكر إلا في معرض الحديث عن انتصارات المقاومة اللبنانية، وعن جدوى خيار المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني الذي يجب أن تعتمده كل الجبهات، ما عدا جبهة الصمت السورية! 

في المقارنة، يسقط الحديث عن التصدي للمؤامرات الخارجية عندما ينسى المتحدثون مؤامرة الاحتلال الإسرائيلي الأخطر، ويسقط كذلك اتهام الشعب السوري بالتآمر، عندما لجأ هذا الشعب إلى الرد بوسائله على ما تعرَّض له من هجمات. لقد بالغ النظام السوري بالقمع، فبالغ خصومه بالرد، وعندما غابت العقلانية الرسمية، أفلتت «العامة» لا عقلانيتها العملية والسياسية ولغة الخطاب.

المشاركة اللبنانية هي انضمام إلى لا عقلانية النظام، وهي لا عقلانية لبنانية في مواجهة لا عقلانية «المعارضات» السورية، لذلك فإن جنى هذه السلوكات، في سورية كما في لبنان، يعادل التأسيس لعلاقات مستقبلية خَرِبة، قوامها تحالف لا عقلانيتين، سورية نظامية، وفئوية لبنانية، ما ستكون له أخطار جمّة على الوضعين اللبناني والسوري، في حاضرهما الراهن، وفي مستقبلهما القريب. ما يحدو على استعمال كلمة الأخطار، هو اتجاه التطورات نحو الاستقرار على توازنات يفرضها الخارج في سورية ويرعاها، ويكون لهذا الاستقرار نسخته اللبنانية المرعية من قبل أطراف خارجيين أيضاً.

لكن الهدوء السوري إذا ما بلغ محطة إنجازه، يشي الآن، ووفقاً لمعطيات اللحظة، إلى تكريس فئوية سورية فوق مجال جغرافي محدد، مما تتقبله البنية السورية المرشحة لنوع من الائتلافية اللامركزية، ومما يرضاه الخارج الذي وصل في رسم نفوذها إلى هذه الخريطة التوزيعية. 

لكن الفئوية المرشحة لأن ترسخ نفوذه في لبنان، أو تعمل على تطويره، لا تحظى بالقبول ذاته الذي سيكون من نصيب الجغرافيا السياسية السورية، ودائماً لأسباب تكوينية لبنانية داخلية، لذلك يجدر التحذير من تعبيد الطريق أمام هذه الفئوية، وهي تقضم القرار الوطني عموماً، وسط صمت بقية أطراف التشكيلة الحاكمة، ووسط «لا أدرية» الجمهور الشعبي وعجزه، أو انصراف أحزاب هذا الجمهور إلى اقتراحات ترقيعية أو تحليلات لا تؤدي إلّا إلى التبعية، وإلى نفض الفكر والقول والعمل من التحديات التي تفرضها المسؤولية الوطنية.

الخلاصة الأهم التي يجب أن ينتبه إليها ما تبقى من لبنانيين وطنيين، أي بمعنى الانتماء إلى الاستقلالية اللبنانية والحرص عليها وفق كل الشروط الداخلية والعربية والدولية التي تضمن هذا الحرص وتصونه، هذه الخلاصة موجزها أن من ولغَ بدم السوريين لن تجديه مقولة التصنيف الإرهابي التي ابتكرها الغرب، وعززتها السلوكات الغرائزية لبعض المعارضة السورية، وتبناها على عجل النظام وأعوانه وحلفاؤه. 

سيظل واضحاً أن التنظيمات التي أطلقها الوضع السوري ليست غريبة عنه، وأن فئات واسعة من السوريين ترى في هذه التنظيمات وسائط دفاعية عن الذات، وأن الأكثرية «السنية» السورية لجأت إلى ما لجأت إليه، رداً على فئوية النظام وعلى مذهبية حلفائه. هذا جانب يجب ألا يغيب عن التحليل، مثلما يجب ألا يعتمد المراقب المحايد، والحريص في الوقت ذاته، مقولة رَذْل أشكال المعارضات السورية، فما كان مرذولاً منها هو ردود البعض الهمجية، والتبرؤ من هذه الردود لم يكن تبرؤاً كاملاً من مقولة الدفاع عن النفس التي تجلت في أشكال مختلفة، طيلة سنوات الكارثة السورية.

ماذا يعني القسم الأخير من الكلام؟ المعنى المراد إيصاله هو أن تدخل الفئوية اللبنانية أسَّس لخصومة مستقبلية مع الشعب السوري، وما كان «شعباً واحداً بين بلدين»، وفق مقولة النظام السوري البائدة، تجلى عن شعوب– فئويات، تجمعها سلوكات السعي إلى الهيمنة، وممارسات الاستبداد والتسلط بوجهيها الرسمي والشعبي.

لا يحتاج اللبنانيون إلى خصومة مع الشعب السوري الشقيق حقاً، وهم على خصومة مع أعداء الحرية والتقدم، عرباً وعجماً وأجانب، مهما تعددت الألسن، ومهما تنوعت أساليب التضليل الشعارية. عليه، فإن التدخل اللبناني الوحيد، غير المعطوف على خصومة لبنانية- سورية، هو ذلك الذي يتولاه الجيش دفاعاً عن شعبه، وذوداً عن أرضه، وعلى الحدود الوطنية الدولية، المحددة بخرائط الطوبوغرافيا، وبخرائط الشرعية الشعبية التي لا يحوزها إلا الجيش الشرعي حصراً، ومن دون منازعة من أحد.


* كاتب لبناني