اجتزاء المعرفة في «تويتر» .. جناية ثقافية واجتماعية

 

 

 تركي التركي من الرياض

على غرار كتب المطارات اللافتة بعناوينها، "تحدث الفرنسية في خمسة أيام" أو من نوع "كن مفكرا في عشرة أيام". تحضر اليوم عبارة "تحت هذه التغريدة" على موقع التواصل "تويتر" لتقدم سلسلة من المعارف والمهارات السريعة المعلّبة. أو من القراءات الآنية الارتجالية. من خلال سلسلة من التغريدات المتصلة. في تصرف يتعارض وباب الإيجاز الذي تميز به تويتر. حيث التغريدات مجزأة إلا أنها بالمحصلة طويلة نسبيا. ولكنه الحرص على الحضور بأي طريقة كانت عبر هذا الوسيط التويتري المفعم بـ"الجدل.. والجدل الآخر".

ثرثرة شفهية

وبتأمل طبيعة الخطاب المستخدم في كثير من هذه التغريدات المتسلسلة. يتضح أن اللغة المستخدمة لا تعدو كونها ثرثرة شفهية مكتوبة. حيث الأنا حاضرة بكامل وعظيتها. لتقدم بمجمل مفرداتها لغة منبرية متعالية، تعرف من تخاطب وكيف تخاطب، في هذه اللحظات المفصلية، من عملية "إصلاح العالم".
ومن هنا يكون الحرص على "ما يطلبه المغردون" حاضرا في ذهن صاحب التغريدات حال تقديم وجبته المعرفية السريعة. مع المحافظة على ثيمة تويتر العالية التي لا تقبل النبرة الهادئة أو حتى المهادنة، خصوصا إذا ما تعلق الأمر بقراءة الأحداث السياسية أو الاقتصادية وارتداداتهما الاجتماعية.
فهل نحن أمام جنس كتابي جديد، كما يروج لذلك بعض النقاد بتقريبهم هذه التغريدات من "الشذرات" المعروفة أدبيا؟ لا يبدو الأمر بهذه النظرة التفاؤلية. فجلّ هذا النوع من التغريدات وإن كان مكتوبا إلا أن النفس الحكائي الشفهي الذي يستحضر الآخر وما سيقوله باستمرار. يؤكد أننا لسنا أمام ذهنية كتابية محكمة بقدر ما نحن أمام محاجّة تكفيها لذة الزهو والشعور الزائف بالانتصار.

رشق السكاكين

وبذلك نحن أمام مغردين من نوع سقراطي "يستعمل القياس كما المدية لرشق خصومه بالسكين". كما يصفهم نيتشه السابق لعصر تويتر وكافة أدوات التواصل الحالية، الذي كتب كثيرا عن نوعين من القوى؛ الارتكاسية والفاعلة. وميز بين من يستخدم الأولى فقط ومن يستخدم الأولى والثانية محققا التوازن المطلوب.
حيث القوى الارتكاسية أو سلاح الضعيف كما يسميها نيتشه. هي القوى التي لا يمكن أن تنشر آثارها في العالم دون أن تنكر قوى أخرى وتشوهها، خلافا للقوى الفاعلة التي لا تحتاج إلى تحطيم قوى أخرى أو معارضتها لكي تنشط بصفة مجدية.
وبينما القوى الفاعلة تفرض ذاتها بذاتها من خلال أفكارها وممارساتها، بعيدا عن النقاش الذي لا طائل منه. تهرب القوى الارتكاسية إلى مصارعة الآخرين اسما باسم ومقالا لمقال. تماما كما يحلو لمغردي تويتر ومن يتابعوهم توهمه عبر سلاسل من التغريدات والمعارك المتوَّهمة. بينما الحياة الثقافية والاجتماعية أرحب بكثير من جزيرة إلكترونية ضمن عدة جزر.

تناقص الحياة

بما أن القوى الارتكاسية لا تملك أن تتمظهر إلا على حساب قوى أخرى، فإنها تقلّص على نحو ما مجموع الحياة الجمعي في العالم: "إنها تحدث تناقصا في الحياة". ولا تصلحه، بحسب كثير من نقاد هذا النوع من الثرثرة الشفهية التي يسهم تويتر فقط في تضخيمها.
ويبقى المطلوب ثقافيا واجتماعيا منذ عصور مضت، قوى فاعلة تسهم في خلق كل ما هو فارق بذراعين، فنية وعلمية. لا تستسلم لوسائط بعينها. بل تتجاوز ذلك لإيجاد وسائطها المبتكرة إذا ما لزم الأمر. أما الاستسلام لطبيعة الوسائط ولذّاتها المؤقتة باسم الصيت والشهرة ثقافيا أو ماديا. مع اجتزاء المعرفة من سياقاتها لمواكبة سرعة هذه الوسائط وأحجامها أيا كانت. فهذه جناية ثقافية ومعرفية سيعيد التاريخ ولو بعد حين تذكيرنا بخيباتها وخيبتنا، إذ سايرناها وصفقنا لها مطولا.