عرفان نظام الدين

نكتشف في هذه الأيام الصعبة، أننا نعيش في حياتنا كذبة كبرى تتفرع منها أكاذيب متنوعة أدمنّا تصديقها مع تسارع الأحداث وتوالي الكوارث والمصائب والحروب والأزمات.

اختلطت الأوراق وانكشف المستور في كل منحى من مناحي حياتنا العربية الخاصة والعامة، وصار الأسود أبيض، واكتشفنا وجود ألوان أخرى، منها الرمادي.

وعبّر عن الواقع الملتبس ما كان يروّج له من أكاذيب على أنها حقائق، والعكس بالعكس، في حملات إعلامية وسياسية تشبه غسيل الأدمغة وتقلب الحقائق، لكن تسارع الأحداث مع نشر الغسيل الوسخ، سلطت الأضواء على جوانب مظلمة لم يكن مسموحاً تداولها عن الماضي والحاضر والواقع والوهم، ومن ثم قيادات وأشخاص وحوادث.

ومن بين ما ساهم في التضليل، برامج وخطابات ومناهج تمسح الماضي من عقول الناس وتحصر الإنجازات بشخص. وأشهر هذه البرامج كان يُذاع عبر أشهر الإذاعات المصرية والعربية في ستينات القرن العشرين، وهي إذاعة «صوت العرب»، وعنوانه: «أكاذيب تكشفها الحقائق» وكان يقدمه إعلاميان اكتسبا شهرة واسعة في تلك المرحلة، وهما أحمد سعيد ومحمد عروق، لترويجهما لسياسة معينة بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وتوجيه الاتهامات إلى قيادات ودول عربية معادية لها، وذلك على طريقة وزير الدعاية النازية الشهير جوزيف غوبلز: «اكذب اكذب اكذب، فكلما كانت الكذبة كبيرة صدقها الناس».

وشهد العالم العربي بعد ذلك تجارب أخرى منسوخة تنهج السبيل ذاته وتبيض صفحات وتسود صفحات، حتى بتنا نشك في كل طرف بعد تراشق اتهامات التخوين والعمالة والرجعية والفساد وقتل قادة وناشطين، وسجن ونفي آخرين تلاحقهم التهم الظالمة التي صدّقها الناس وتعاملوا معها كحقيقة واقعة تستوجب إلحاق العار بهم. ودارت الأيام وبدأنا نكتشف ونقرأ مع رواج وسائل التواصل الاجتماعي أن ليس كل ما كان يعلن صحيحاً، وأن ما كان يعد إنجازاً لم يكن سوى أوهام، وأن من كنا نعتبره منزّهاً كان عميلاً أو مرتبطاً بجهات مشبوهة، وأن من كان يتهم بالعمالة كان وطنياً صادقاً ونزيهاً. كما اكتشفنا أن معظم الذين اغتيلوا معنوياً وجسدياً كانوا مخلصين وشرفاء ووطنيين. وتغيرت الأحوال لنصل إلى قلب الآية، ليحمل الشعار المنقرض عنواناً آخر هو «حقائق تكشف الأكاذيب».

وما يهمنا الآن هو الوصول إلى فتح صفحة جديدة تعطي كل صاحب حق حقه والوقوف لحظة نتساءل فيها: لماذا وصلنا إلى هنا؟ ومن المسؤول عن الانهيار؟ وكم مشروع وحدة أُجهض؟ وكم مجلس تعاون جُمد؟ وكم برنامجاً نهضوياً فُرِّغ من محتواه؟

والبداية يجب أن تتم بوصل الماضي بالحاضر والتأسيس للمستقبل، فليس كل قديم سيئاً، وليس كل إنسان تولى مسؤولية كان فاسداً، فهناك إنجازات كثيرة طاولها التعتيم على مستوى العالم العربي. وكم من زعيم اتهم بالخيانة وكان ينطق بالحق؟

والأمثلة في هذا المجال كثيرة، من بينها ما ينشر اليوم عن مصر في العهد الملكي والازدهار الذي كان سائداً والمستوى الراقي للسياسة والأدب والفن والثقافة والنمو الاقتصادي. وكانت مصر تعيش وحدة أخوة مع السودان، وسعت أثيوبيا وأوغندا إلى الانضمام إلى مصر. وكانت القاهرة من أجمل المدن، وكانت نسبة البطالة لا تتجاوز 2 في المئة وسط جو من التسامح الديني. كما كان لمصر أكبر غطاء نقدي في العالم بين عامي 1926 و1953، وكان الجنيه المصري يعادل جنيهاً من الذهب، والدولار يساوي 25 قرشاً. وقد اقترضت بريطانيا من مصر خلال الحرب العالمية الأولي ما يعادل 29 بليون دولار بالقيمة الحالية.

وينطبق على سورية والعراق ولبنان وليبيا ما ينطبق على مصر اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، إذ ساد الازدهار والتقدم وخرّجت الجامعات آلاف الشبان والشابات منذ مطلع القرن الماضي، ما يحتاج إلى مقال آخر تُسرَد فيه حقائق كثيرة منسية.

وأقف هنا مع مثلين حيين عن حال التضليل التي عاشها العرب خلال قرن من الزمن، لا سيما بعد نكبة فلسطين عام 1948، والتي تحولت قضيتها إلى شماعة يستغلها القاصي والداني ويتاجر بها ويصفي حساباته: المثل الأول مع قضية الأسلحة الفاسدة خلال حرب فلسطين التي روّجت لاتهام الملك فاروق وتشويه صورته بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952. فقد أكد لي شخصياً مروّج هذه الإشاعة الأديب الراحل إحسان عبدالقدوس أنها كانت «كذبة صغيرة» سرعان ما تضخمت وتحولت إلى حقيقة، وقال أنه سمع عن جندي انفجرت بندقيته به، فحولها إلى قضية ثم تم استغلالها وتردادها في الأفلام والكتب.

أما المثل الثاني، فيتعلق بالرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، فقد نادى عام 1965 خلال زيارته بلدة أريحا الفلسطينية بالقبول بقرار تقسيم فلسطين والاستعداد بعد ذلك لتحرير النصف الآخر، فقوبل بالشتائم والاتهامات بالخيانة والعمالة.

وأكد الرئيس الراحل أنه أخذ الضوء الأخضر من الرئيس عبدالناصر، لكنه انقلب عليه وقاد الحملة ضده. وطلب مني خلال لقائي به في واحة نفطة التونسية أن أروي لمرافقيه تفاصيل هذا الحدث، وكيف أضاع العرب نصف فلسطين، ومعها النصف الآخر من أراضٍ عربية أخرى عام 1967.

وهناك ألف قصة وقصة تكشف عن الحقائق بعد سنوات من الأكاذيب وأعمال تصفية المخلصين. ومن بين الأحداث الفاضحة والأعمال المنكرة التي يسجلها التاريخ، ما حصل للراحل أنطون سعادة، زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وطريقة إعدامه بعد محكمة صورية لم تستغرق سوى 48 ساعة لم نشهد مثلها أبداً، من دون أن يُسمَح له بحق الدفاع في جريمة لم يرتكبها وفي غياب دليل واحد على أي تهمة وُجهت إليه.

ففي 6 تموز 1949، سُلِّم الزعيم سعادة إلى السلطات اللبنانية من جانب السلطات السورية، فحوكم بعد يوم واحد، ونفذ فيه حكم الإعدام في 8 تموز بعد توافق إقليمي ودولي.

كل ذنبه أنه كان يؤمن بنظرية الإنسان المجتمع، أي أن المواطن ينتمي إلى المجتمع وإلى الأمة، وليس إلى طائفة أو عرق ويمارس حقوقه على قدم المساواة. إلا أن أهم ما كان ينادي به سعادة هو اعتباره أن زرع الكيان الصهيوني في قلب الهلال الخصيب والعالم العربي هو تهديد لوجود الدول العربية.

فقد كان هدفه الرئيسي هو إقامة سوريا الكبرى من خلال وحدة بين سورية ولبنان والأردن وفلسطين والعراق. وهنا يكمن بيت القصيد، ويفهم سرّ اغتيال سعادة بهذا الأسلوب الظالم. وكم نشعر بالحزن ونحن نشهد فصول التقسيم الجهنمي للدول العربية، وتنفيذ المؤامرة الجديدة القديمة بعدما جرى في الماضي من تقسيمات «سايكس– بيكو»، ونتلوى من آلام الخلافات العربية والتشرّد والحروب العبثية لإقامة دويلات مسخ، والسماح لإسرائيل بأن تكون لها الكلمة العليا وتنفيذ مشروعها التوسعي لإقامة ما يُسمى «إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل».

وتاريخنا مليء بالأكاذيب منذ عهد الخلفاء الراشدين الذين يتعرضون حتى يومنا هذا لحملات تضليل وتشويه سمعة، كما أن التزوير واضح في شتى المراحل. وهذا يحتاج إلى مركز بحوث يعيد كتابة التاريخ من جديد على أسس علمية ثابتة.

وأذكر في هذه الحال بعض الأمثلة عن شخصيات فلسطينية وطنية للتدليل على دور الأصابع الصهيونية ومن يعمل لخدمتها في اغتيالها جسدياً ومعنوياً، مثل الرئيس المجاهد ياسر عرفات الذي تعرض لهجمات شرسة لتشويه نضال شارك فيها فلسطينيون وعرب، وعندما لم تنجح هذه الأساليب، وصلت إليه يد الغدر لتقضي عليه مسموماً وتخلو لها الساحة. وهذا ما حدث لمناضلين شرفاء مثل صلاح خلف (أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد) وعشرات من القادة الشرفاء والمخلصين، وسمعنا من قبل سيلاً من الشتائم والاتهامات ضد مفتي القدس الأكبر المرحوم الحاج أمين الحسيني بغية شلّ حركته، لكنه كان صابراً ليعرف الجميع الآن حقيقة هذا المناضل الفلسطيني العربي الشريف الذي كان ذنبه الوحيد أنه جابه العدو الصهيوني وراهن على ألمانيا في عهد أدولف هتلر، والتقطت له صورة معه وهو يرفع يده بالتحية.

هذه الوقائع ذكّرتني بقصة من قصص الحروب وجدتها مناسبة لشرح الواقع العربي بين الأكاذيب والحقائق، وهي تحكي عن قرية دخل الجنود إليها واغتصبوا كل نسائها باستثناء واحدة قاومت المعتدي وقطعت رأسه. وبعدما رحل الجنود، خرجت النساء من بيوتهن يلملمن آثار الفضيحة إلا البطلة التي جاءت حاملة رأس الجندي بين يديها بنظرة كلها عزة وافتخار واحتقار لأخريات. فاجتمعت النساء المغتصبات وقررن قتلها حتى لا تفضحهن وتتعالى عليهن بشرفها ولا يسألهن أزواجهن عندما يعودون من الأسر لماذا لم يفعلن مثلها ويقاومن الغزاة.

هذه القصة المعبّرة وصلتني عبر وسائل التواصل الاجتماعي عنوانها «قتلوا الشرف ليحيا العار»، كأنها تلخص تاريخنا، وحكايات الأكاذيب التي كشفتها الحقائق من الأمثلة التي أوردتها وغيرها من عمليات التضليل. وأختم مع قصة طريفة تتحدث عن اكتشاف رسمي عما كان يعرف عن السفاحتين ريا وسكينة بأنهما كانتا تقتلان النساء بعد سرقتهما. فقد تبيّن أنهما كانتا تناضلان ضد الاستعمار الإنكليزي وتقتلان جنود الإنكليز، واختُلقت هذه القصة لتشويه سمعتهما، مثلها مثل القصص التي أشرت إليها آنفاً.