فهد سليمان الشقيران

تعرّض مفهوم «العلمانية» لدى العرب والمسلمين إلى شحنٍ منظّم ومبرمج ضمن سياق صعود الصحوات الإسلامية، السنّية والشيعية، وقد كان لرموز حركة الإخوان المسلمين دورهم الكامل في تشويه المفهوم وفهمه، من خلال حركيّة بائسة لا تستطيع تداول المفاهيم العلميّة بطريقةٍ مرتبة، إذ سرعان ما تأخذ المفهوم بكل الشوَه الذي لقّنوا به من دون درسٍ أو تحليل، رموز كثر لهم أطروحات منقوصة حول العلمنة وبخاصة ثنائية محمد قطب وسفر النحو التي أثمرت عن كراريس تأخذ العلمانية بطريقةٍ سطحية، وسارت بنفس الطريق «موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة» الصادرة عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وهي موسوعة مثقلة بالأخطاء العلمية والمفهومية بشكلٍ يصعب أن توصف به المجموعة تلك بـ«الموسوعة» وليست المشكلة هنا، بل أن يتحول ذلك الشرح إلى الفهم المطقّم الذي التزم به الشبان الحركيون. هذا مع عدم نسيان محاولاتٍ أخرى أكثر رصانةً لدى عبد الوهاب المسيري: «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» وقد ردّ عليه الصديق حمد الراشد بكتابٍ مهم بعنوان: «دفاع عن العلمانية ضد المسيري» وهو نقد فلسفي متقن.

ضمن مجال الفهم العاجل للعلمانية كتب الأستاذ جمال خاشقجي بجريدة الحياة بتاريخ 19 أغسطس (آب) مقالةً تحت عنوان: «دكان العلمانية» المضمون كله يجعل مفهوم العلمانية بحالةٍ تعارضٍ مع هويّة الدولة، إذ يعتبر العلمانية دكاناً يجب أن يشترى كله أو يترك كله، بينما العلمانية ليست كذلك، بل هي الفضاء الذي يضبط حركة الزائرين لدكاكين المدينة، فهي بتعريف يقاربه الآن تورين: «نظامٌ من التوسط الدائم بين الدولة والعناصر الناشطة اجتماعياً». - انظر كتابه «ما هي الديمقراطية - حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية»، إذن هو نظام متطوّر لكنه لا يتفّه عقائد الناس، ولا يتدخل بتفاسيرهم بل مهمته جعل الواقع أكثر براءةً من هيمنةٍ محددةٍ لأي كان، إذ يجعله فضاء واسعاً لحركة الفرد، والعلمانية ليست آيديولوجية كما يقول خاشقجي إلا إن فهمت بشكلٍ آيديولوجي، بل المفهوم يعبر عن نظام يحفظ أصالة الواقع من تعارض الفردانيات بين بعضها البعض، إن المفهوم يجعل المدينة أكثر ترتيباً، ويهذّب فرديات البشر، ويجعل المدينة أكثر انضباطاً من خلال القانون، والمجتمع أكثر رفاهية من خلال تعزيز النفعية بين الإنسان ومجاله العام، بغية رفع مستوى السعادة.

تعرّض خاشقجي لأحزاب البعث وتجاربها مع العلمانية، وهذا مثال ناقص، كان يمكنه الذهاب إلى مثالٍ أكثر وضوحاً وهو الذي لا تنقصه المعرفة بالأمم، وأعني التجربة التركية للعلمانية، وهي أول تجربة واضحة وحادة للعلمانية في تاريخ المسلمين، إنها تجربة لها أسسها النظرية، وهنا تجدر الإشارة لدراستين مهمتين لمحمد أركون عنونهما بـ«الوضعية والتراث أو التراثات ضمن منظور إسلامي: التجربة الكمالية» وهما منشورتان بمجلة ديوجين الصادرة عن منظمة اليونيسكو وقد لخّصهما في كتابه: «الفكر الإسلامي نقد واجتهاد» وفيه يعزو تجربة أتاتورك للعلمانية بأنها - وإن كانت تستحق الدراسة، ولها دورها في تطور المجتمع التركي - غير أنها كانت مشوبةٍ بـ«الوعي الساذج» للغرب، وهذا الوعي يصحّ على المنبهر بالغرب، وعلى الخائف منه، إذ بنهاية المطاف كان التفسير السائد للعلمانية مصحوباً بإدراك التفاوت الفظيع بين عالمين مختلفين. والتجربة الكمالية بقيت محفوظةً وموضع امتثالٍ حتى لدى الحزب الإسلامي «العدالة والتنمية» ولن يستطيع الحزب إطلاقاً تجاوز القيم العلمانية بـ«التفسير الأتاتوركي»، ولم يستطع الحزب الإسلامي نقض أسس أتاتورك، علماً أن التفسير الكمالي للعلمانية تفسير يخص أتاتورك نفسه، كما أن التفسير البورقيبي للعلمنة يعتبر تأويله الخاص، وكذا تأويل رفاعة الطهطاوي، إذن فهو ليس مفهوماً ذا تعريفٍ واحد بل يتقلّب ضمن الفضاءات التي يتحرّك بها، فالعلمانية حتى في الدول الأوروبية تتمايز وتختلف طبقاً للتأويل والممارسة الأمبريقية للمفهوم، بحسب تراتبية مؤسسات الدولة، ومزاج المجتمع العام الفارض رأيه في الشارع وصناديق الاقتراع.

يقول الأستاذ جمال: «باختصار، في الإسلام من السماحة والمرونة والعصرنة والقدرة على التجديد ما يغني عن البحث عن «آيديولوجيا» أخرى، هذه الفكرة تطرح العلمانية بوصفها نقيضاً للدين، وثانياً بأنها آيديولوجية تحشد وتبرمج وتؤسس، بينما الفضاء العلماني بقدر احترامه للأسس القائمة والهويات وتاريخيتها في المدينة، إلا أنه يقوم بمهمةٍ أساسية لن يستغني عنها حتى المجتمع المتدين ألا وهي ضبط إرادات الأفراد من التداخل، وإيجاد مسافة تحرس المجتمع من وجود حربٍ أهلية رمزية، فالنموذج العلماني الهندي هو الذي حمى المسلمين من الاضطهاد والإبادة والإلغاء، لقد قام بعملية ضبط لحركة الهويات إنقاذاً لها من التدافع ومن سيل الدم ومن جذوات الصراع، ولولا العلمانية في الهند بفضائها الحامي للأقليات والعرقيات من التدافع لحصلت كوارث للمسلمين هناك، قل مثل ذلك عن صراع الطائفتين السنية والشيعية في دول الإسلام المتصاعدة كراهيتها لبعضها بعضاً على امتداد رقعة الإسلام من إندونيسيا إلى المغرب.

وصف قريب وسديد من الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، قاله في كتابه «الدين في الديمقراطية» حين عرّف الواقع الصحي بأنه القائم على «تنسيق الإرادات»، تلك هي المسألة باختصار.