يعلن ترامب عبر 'العذر' الأفغاني عن انقلاب محتمل في تحالفات الولايات المتحدة أو بعضها في جنوب آسيا. يدعو الرئيس الأميركي الهند إلى الانخراط الاقتصادي والتنموي، وخصوصا في الجهود لفرض الاستقرار في أفغانستان.

محمد قواص 

تتحدث تقارير لأجهزة المخابرات الأميركية عن قيام روسيا بتسليح حركة طالبان في أفغانستان. لموسكو حساباتها الأفغانية، وهي وإن كانت قد اكتوت بجحيم أفغانستان، فليس لها مصلحة في أن تكون أفغانستان ذاتها جنة للأميركيين.

وتتحدث تقارير أخرى عن خطّ إمداد عسكري لطالبان مصدره إيران، ناهيك عن أن العلاقات بين إيران وطالبان باتت علنية تتيح تردد قادة الحركة الأفغانية على العاصمة الإيرانية وسط تغطية إعلامية علنية كاملة. ومع ذلك، أغفل الرئيس الأميركي كليّا ذكر روسيا وإيران في معرض إعلانه عن استراتيجية بلاده الجديدة في أفغانستان.

ليس دقيقا الحديث عن جديد في استراتيجية واشنطن التي “بشر” بها دونالد ترامب. فبعد 16 عاما على الحرب هناك، لا يمكن وصف إرسال بضعة آلاف آخرين من “المستشارين” العسكريين الأميركيين بالنقلة الاستراتيجية النوعية الكبرى.

وربما الجديد أن الرئيس الأميركي، الذي لطالما انتقد سلفه باراك أوباما مطالبا إياه بـ“إعادة أبنائنا” من أفغانستان وجعل من الأمر وعدا في برنامجه الانتخابي، تخلى عن “حدْسه” الذي كان يحثّه على الانسحاب من أفغانستان وخضع لما تبوح به التقارير الأمنية والعسكرية المتخصصة بضرورة بقاء القوات الأميركية في أفغانستان.

تحدث ترامب أمام جنرالات الجيش الأميركي بما اعتبر اعترافا بالدور الذي يلعبه البنتاغون بقيادة وزير الدفاع جيمس ماتيس وكافة المؤسسات الأمنية الأخرى التي يمثلها مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر في تحديد الخطوط الاستراتيجية الكبرى لحركة الولايات المتحدة في الخارج، وبما اعتبر أيضا تهيبا من موقف منابر عسكرية كبرى، بمن في ذلك رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال جو دنفورد، من مسألة الموقف الملتبس لترامب عقب المواجهات التي حصلت في تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا.

ويخفي قرار واشنطن الاستمرار وتصعيد الضغط العسكري على طالبان لـ”جلبها إلى طاولة المفاوضات”، اعترافا بقدرية الحركة وحتمية التفاوض معها للوصول إلى أي تسوية في أفغانستان.

لا تعامل واشنطن طالبان معاملتها للحركات الإرهابية الأخرى ولا تتوجه إلى الحركة بأي خطاب استئصالي على النحو الذي تقارب به تنظيما داعش والقاعدة.

توحي سلوكيات واشنطن منذ المفاوضات الفاشلة التي أجرتها مع طالبان في أماكن متعددة بما فيها الدوحة، أن الولايات المتحدة قد تعتبر طالبان شريكا في تحديد مستقبل أفغانستان، وأن ما ترومه الإدارة الأميركية هو جر الحركة لمفاوضات وفق شروط وسطية مازالت بعيدة عن خطاب طالبان.

على أن مداخل واشنطن إلى تموضع أقوى في أفغانستان لا تخيف طالبان ولا ترهبها. ولئن اعتبرت الحركة عقب خطاب ترامب أن أفغانستان ستكون “مقبرة للأميركيين”، فذلك لأن ما تعد به واشنطن لن يغيّر شيئا في موازين القوى الميدانية، وأنه إذا كانت مقاربة الولايات المتحدة هي نصب طاولة مفاوضات في النهاية، فإن طالبان لا بد أنها تعتبر ذلك نصرا وإقرارا من الخصوم بنهائية وجودها وليس عدميته في مستقبل أفغانستان.

وإذا ما أريد للمراقب أن يدقق في فحوى السطور التي قرأها ترامب كنص جاهز وضعت المؤسسة العسكرية نقاطه وحروفه، فإنه سيتوقف مليّا عند التحذيرات التي توجهها واشنطن لحليفتها الاستراتيجية في المنطقة باكستان.

وإذا ما كان من فحوى لعبارة “الاستراتيجية سوف تتغير دراماتيكيا” في أفغانستان التي وردت في خطاب ترامب، فإن الأمر لا ينطبق إلا على العلاقة الجديدة التي تريدها واشنطن مع باكستان.

شكّلت باكستان القاعدة الأولى لكل الاستراتيجية الأميركية في مكافحة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان ما بين عامي 1979 و1988. من باكستان دخل المدد العسكري الأميركي والدولي إلى المقاومة الأفغانية على تعدد فصائلها.

ومن باكستان، ومن بوابة بيشاور، دخل الآلاف من المقاتلين الأجانب الذين تم استقدامهم لـ“الجهاد” ضد المحتل الكافر في أفغانستان. ومن باكستان أيضا دخل الآلاف من طلاب المدارس الدينية هناك ممن أطلق عليهم اسم “طالبان” ليطيحوا بممالك أمراء الحرب التي انتشرت عقب انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان.

تعتبر باكستان أفغانستان حديقة خلفية تتصل بأمن البلد الاستراتيجي. تعاقبت على البلد أحزاب وحكومات ورؤساء، وبقيت أفغانستان قيمة ثابتة في أجندة أجهزة المخابرات الباكستانية.

والبلد في مساحاته وقبائله ومشاربه يعمل داخل خارطة من الأجندات الغامضة التي أتاحت انتقال قادة تنظيم القاعدة من تورا بورا الأفغانية إلى داخل النواحي الباكستانية، بما في ذلك مؤسسة وزعيم التنظيم أسامة بن لادن إلى أن تمكنت القوات الخاصة الأميركية من قتله في مسكنه في أبوت آباد غير البعيد عن العاصمة (2 مايو 2011).

وعلى الرغم من تبرّم إسلام أباد من النشاط العسكري الأميركي ضد القاعدة على الأراضي الباكستانية، بما ذلك قيام الطائرات الأميركية المسيّرة بقتل مدنيين باكستانيين أثناء إغارتها على أهداف للقاعدة، فإن إسلام أباد بقيت تُعتبر حليفة لواشنطن في المشهد الإقليمي الذي يضعها في مواجهة الهند القريبة تاريخيا من الاتحاد السوفييتي سابقا وروسيا لاحقا. لذلك فإن كشف ترامب ووزير خارجيته ريكس تيلرسون عن غضب أميركي من الدور الباكستاني، بما في ذلك اتهام إسلام أباد بتمويل ودعم الإرهاب، يُعد مفترقا مفصليا يستحق التأمل والبحث.

يعلن ترامب عبر “العذر” الأفغاني عن انقلاب محتمل في تحالفات الولايات المتحدة أو بعضها في جنوب آسيا. يدعو الرئيس الأميركي الهند إلى الانخراط الاقتصادي والتنموي، وخصوصا في الجهود لفرض الاستقرار في أفغانستان. بكلمة أخرى، يرسم ترامب الهند شريكا يتقدم على أرضية تأنيب للشريك الباكستاني. وداخل ذلك الجديد ضباب كثيف يخفي حقيقة الخرائط التي تنبسط في المنطقة بين ليلة وضحاها.

لا نقول جديدا في تسليط الضوء على حقيقة أن النظام السياسي الباكستاني بُني وفق خلطة متينة بين الدين والمؤسسة العسكرية تراعيها الأحزاب التي تخوض الانتخابات وتتداول الحكومات. ولا نقول جديدا في تأكيد حقيقة أن إسلام أباد صنعت وموّلت ودعمت وسلّحت الكثير من الجماعات الإسلامية المسلحة لمناكفة الهند في كشمير وحتى داخل الهند نفسها، وتعزيز الحضور الباكستاني في أفغانستان الذي يهدده تقدم هندي مقلق.

ولئن تكتشف الولايات المتحدة قبل أيام خطورة التكتيكات الباكستانية التقليدية المغطاة مند حرب أفغانستان ضد السوفييت أميركيا، فإن باكستان نفسها غير جاهزة في القريب العاجل للتموضع وفق معايير واشنطن الجديدة، خصوصا وأن شكوى واشنطن من العلة الباكستانية تأتي متصاحبة مع وعد أميركي بترياق تكون الهند عنصر أساس داخله.

ستنطلق المؤسسات الدبلوماسية والمالية والعسكرية إلى باكستان في سعي لشرح منطق ترامب الجديد لقادة النظام السياسي في إسلام أباد. اعتبر الباكستانيون أن الموقف الأميركي الجديد “مخيب للآمال”، خصوصا وأنهم أكثر الأطراف تعرضا للإرهاب القادم من وراء الحدود. بدا أن باكستان أُخذت على حين غرّة وهي تحاول استخدام رد فعل متأن على فعل أميركي جامح. لكن أسئلة كثيرة بدأت تفوح من عواصم المنطقة المعنية جراء “البقاء” الأميركي في أفغانستان وفق خطة عمادها الأبرز معاداة باكستان. وفي الأسئلة بحث عن الحكمة من تسليم باكستان للصين وروسيا، في وقت ترتكز الاستراتيجيات الأميركية على مواجهة توسّع الصين وروسيا في العالم. علما وأن الصين تستثمر ما يقارب الـ50 مليار دولار في تحديث البنى التحتية الباكستانية لا سيما ميناء غوادار، بما يعني أن واشنطن تستسلم لما بات قدرا صينيا متقدما داخل دولة عُرفت بالتصاقها التاريخي بخيارات واشنطن.

قد لا يبدو الأمر واضحا في هذه الساعات. بيد أن المقاربة الأميركية لأفغانستان، التي لا نعرف عنها الكثير، تبدو مربكة تحرك بيادق على رقعة الشطرنج الآسيوية. وقد تبدو اليد الأميركية الممدودة للهند تشبه تمرينا لتبادل الأوراق وإعادة اللعب وفق شروط وقواعد أخرى. وربما للوهلة الأولى فإن خطبة ترامب بالنسبة لأطراف كباكستان والهند والصين وروسيا تشبه خطبة وداع أكثر منها إعلان استراتيجية طويلة الأمد لتواجد أميركي لا نهائي في المنطقة.

بيد أن المسألة أعقد من اختصارها في خطاب يلقيه رئيس أميركي. وقد يبدو نافعا توسيع المجهر وإدراج التفصيل الأفغاني في الأجندة الأميركية من ضمن نشر للقواعد والقوات الذي في الحسابات الإيرانية مثلا، سيكون مُحاصرا لنظام طهران شرقا ويأتي مكملا لورش أخرى تجري في العراق وسوريا. يبقى أنه في لعبة تبادل الأوراق ما يمكن أن يناقش ماهية ما ستقدمه واشنطن لموسكو وبكين مقابل ترتيبات في سوريا وكوريا الشمالية. هي ببساطة “لعبة الأمم” من جديد.

 

صحافي وكاتب سياسي لبناني

محمد قواص