كمال الجزولي

تصريحات يوسف العتيبة، سفير الإمارات بواشنطن، لمحطة تلفزة أمريكيَّة، مؤخَّراً، لم يكن من غير المتوقَّع أن تحدِث أثر حجر يُلقى به في بركة راكدة، حيث أظهر، ربَّما لأوَّل مرَّة، خلاف الإمارات والسّعوديَّة والأردن ومصر والبحرين، من جهة، مع قطر، من جهة أخرى،

بأنه خلاف فلسفي، قائلاً: «لم نتمكَّن، لفترة طويلة، من الاتفاق عليه، فنحن نريد للشرق الأوسط حكومات (علمانيَّة) مستقرَّة ومزدهرة وقويَّة، مِمَّا يتعارض مع ما تريد قطر التي تدعم الإخوان، وطالبان، وحماس، والميليشيات المسلحة في سوريا وليبيا، الذين يروِّجون ويبرِّرون، عبر قناة الجزيرة، للتفجيرات الانتحاريَّة، فإجراءات الدّول الخمس ضد قطر ليست وليدة لحظتها، أو نتيجة مشاركة الرئيس الأمريكي في قمة الرِّياض في مايو/أيار الماضي، بل كان الأمر مثل قِدر وُضع على النار حتَّى بلغ درجة الغليان» (بي بي إس، 26 يوليو/تموز 2017م). 
الكلمة المفتاحيَّة هنا هي (العلمانيَّة) التي تثير حساسية الأعمدة السلفيَّة والإخوانيَّة، وحساسية عامَّة، ضحايا هذه الأعمدة مِمَّن لا يكفّون، تحت تأثيراتها السَّالبة، عن مماهاة (العلمانيَّة) ب (الكفر) البواح. فلئن اتَّسمت ردود فعلهم بحرارة العاطفة (يورونيوز، 31 يوليو 2017م)، فثمَّة تقديرات أخرى نَحَتْ إلى برودة العقل، طارحة تساؤلات منهجيَّة حول مفهوم (العلمانيَّة)، وما إن كانت تتعارض، حقيقة، أم تتوافق مع الدِّين، وما إلى ذلك (بي بي سي، 10 أغسطس/آب 2017م).

في معرض الإجابة يتعيّن تأكيد أنه ما من مفهوم أو مصطلح عانى من التَّسطيح، والتَّشويه، والتَّحريف العدائي، وسوء الفهم المتعمَّد، من جهتي (الأيديولوجيا) و(الوعي الاجتماعي العام)، عبر تاريخ الفكر العربي والإسلامي، كما عانى مفهوم ومصطلح (العلمانيَّة)، خصوصاً مِمَّن يحبّون أن يتَّصفوا بأنهم (رجال دين).
مهما يكن من أمر فإن (رجال الدِّين) هؤلاء هم، للمفارقة، «أوَّل من يجب أن ينادوا بتطبيق (العلمانيَّة)، كونهم أوَّل المستفيدين منها، حيث ستحرِّرهم من سلطة السِّياسي»، على حدِّ تعبير د. رياض الصِّيداوي، مدير المركز العربي للدِّراسات السِّياسيَّة والاجتماعيَّة في جنيف، والذي يسترسل قائلاً: «منذ عهد الأمويين لم يكن الشِّق الدِّيني مسيطراً على الشِّق السِّياسي، بل على العكس، كان السِّياسي، وما يزال، المسيطر والمتحكِّم في الدِّيني» (المصدر نفسه). 
ولعلَّ ذلك كان وراء اقتراحنا، قبل زهاء العقدين، باستخدام مصطلح (العقلانيَّة) بدلاً من (العلمانيَّة)، حيث كلّ مصطلح هو، في الحقيقة، تاريخه، وتاريخ (العقلانيَّة) المختلفة، تماماً، عن تاريخ (العلمانيَّة) هو الأقرب إلى الفكر الإسلامي، ومن شأن هذا التَّبديل استنقاذ قاموسنا الفلسفي من شكلانيَّة الاستخدامات الاصطلاحيَّة التي تكاد تنقلب، بسوء الاستخدام، إلى محض شجارات لفظيَّة. لكن، مع توطّن مصطلح (العلمانيَّة)، أكثر فأكثر، في قلب لغة حواراتنا وصراعاتنا الفكريَّة والسِّياسيَّة، لم يعُد ثمَّة مناص من استخدامه، مع ضرورة التَّشديد على ما يميِّزه في الفكر العربي والإسلامي عن أصل منشئه في الفكر الغربي، وعلى أن يكون استخدامه مرادفاً لمصطلح (العقلانيَّة) في الفكر الإسلامي.
وثمَّة طبعتان من (العلمانيَّة Secularism). فليست المقصودة بتصريحات العتيبة الطبعة التي يصرّ خصوم التَّثوير والإصلاح الدِّيموقراطي على تشويهها في الذِّهنيَّة الشَّعبيَّة، بنسبتها إلى (اللائكيةLaicisme ) الفرنسيَّة، والتي كانت تعني إقصاء الدِّين عن الحياة، كمفهوم محدَّد أنتجه الفكر البرجوازي الأوروبي لتحرير (السّلطة الزَّمنيَّة) من قبضة (الإكليروس الكنسي) بمصالحه الدّنيويَّة التي أفرزت مظالم التَّشكيلة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة للإقطاع، والتي هي صائغة تبريراته الرّوحيَّة، والحارسة الأيديولوجيَّة لعلاقات إنتاجه. لقد هيَّأت تصفية تلك التَّشكيلة لواقع فكري مغاير، ومنهجيَّة جديدة، في التَّعاطي مع الوجود، بحيث أصبحت الفلسفة عقليَّة، وبقي اللاهوت نقليَّاً، حسب برهان غليون. لكن (العلمانيَّة) لم تستهدف، أوَّل أمرها، سوى إخضاع الكنيسة الكاثوليكيَّة لسلطة الدَّولة. فقط عداء (الكهنة) لإعلان الجمهوريَّة الفرنسيَّة عام 1793م هو الذي أنتج المواجهة بين الجماهير وبين (الإكليروس) كمعادل، في الذِّهنيَّة الشَّعبيَّة، ل (الدِّين) نفسه. غير أن ذلك الوضع تغيّر مع الزَّمن.
(العلمانيَّة)، إذن، في سياق التَّطوّر الغربي، تمثِّل مظهراً ل (العقلانيَّة الأوروبيَّة) كمنجز حضاري تاريخي بحيثيَّات محدَّدة. أمَّا (العقلانيَّة) الإسلاميَّة، التي قد يستخدم مصطلح (العلمانيَّة) في الدَّلالة على (مفهومها)، ضمن لغة الفكر والسِّياسة الحداثيَّة، فمتجذرة في جملة آيات وأحاديث توقِّر (الكرامة)، و(العقل)، و(حريَّة التَّفكير والاختيار)، فليس في الإسلام (إكليروس) يكفِّر أو يمنح صكوك غفران. وفي ما عدا بعض الموجِّهات الإرشاديَّة العامَّة فإن المسلمين مأمورون بالتَّمييز بين (شؤون دينهم) وبين (أمور دنياهم): «ما أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، أمّا ما كان من أمر دنياكم فأنتم أدرى به» رواه مسلم وابن ماجه وابن حنبل. ولذا؛ فالإسلام لا يعترف بطبيعة للدَّولة غير الطبيعة المدنيَّة، وهذا، بالقطع، هو ما ينبغي أن يُفهم من تصريحات العتيبة.