طيب تيزيني

 يعيش الغرب الأوروبي الآن حالة من القلق والاضطراب بسبب ما ينشأ عنده أحياناً من أحداث «إرهابية» على أيدي مجموعات إسلامية تعيش معه. والمعروف أن انفلات أبواب الهجرة إلى أوروبا إياها أجج أوار تلك الأحداث، وبدأت تخيم عليها أجواء من الأسى والانفلات، ما أخذ يسهم في التحذير من قلاقل قد تتمكن من إعادة النظر في الاقتصاد الذي علت راياته باسم كونها رايات الاقتصاد الليبرالي المنفتح.

فموقف هذا الاقتصاد المعروف من الدولة، كان شؤماً على الاقتصاد الأوروبي. فقد أحدث كساداً غير قابل لفهم أزمة الكساد الكبيرة التي خيمت على الاقتصاد العالمي. وهذا الوضع هو الذي أثبت مصداقية الفكرة الحاسمة والقائلة إن النظرية الليبرالية عاجزة عن فهم الكساد الكبير الذي خيم على الاقتصاد العالمي، بما يعني إقصاء الدولة ودورها في المجتمع، وقد قاد ذلك جعل الشوارع هناك تكتظ بعشرات الملايين من المواطنين العاطلين عن العمل، وهو ما جعل الدولة تتدخل وتنفق أموالاً متزايدة بكيفية دائمة، في مواجهة ذلك، مما جعل الفرصة مفتوحة أمام «كينز» لرفض مشروع الدولة القوية والمترفعة عن التدخل في الاقتصاد بنشاط (انظر بعض ذلك في كتاب: انهيار الرأسمالية، في سلسلة «عالم المعرفة»).

إن ذلك الذي أتينا عليه يظهر كيف تنغلق الأبواب أمام المهاجرين المتدفقين من أنحاء العالم التعيس إلى أوروبا «المبهرة»، خصوصاً من العالم العربي الإسلامي. فلقد راح هؤلاء الأخيرون يتنعمون في البداية من منتجات السوق الأوروبية، ليكملوا حالة التنعم التي بدأوا بها، ولينقلبوا بعد ذلك على عقب. وعلى رغم ذلك، لم تتوقف الهجرة إلى أوروبا، وظلت القارة قادرة على الإقناع بالبقاء فيها، فبعض القوانين التي تضبط حياة المهاجر العربي الإسلامي مارست دوراً حاسماً في تفضيلها على حياة ذلك المهاجر في بلده الأصلي، الذي قد لا يتمتع فيه بمزايا المواطنة، خصوصاً مع بدايات تشكل «قانون الاستبداد الرباعي» منذ بدايات حركات الاستقلال السياسي في عدد من البلدان العربية الإسلامية.

لقد افتقد المهاجر العربي الإسلامي في بلده الكرامة والحرية والعمل. وما هي إلا فترة عاشها الوطن العربي على الانقلابات العسكرية خصوصاً، وعلى ما أفضت إليه من فراغ، إلا من التأسيس الداخلي لنهايات تلك الانقلابات، التي تجسدت بتسلط نُخب عسكرية حزبية مقاليد الأمور، وانتهت إلى التأسيس لـ«دول زائفة»، ستتحول إلى دول قمعية بمثابتها نهايات التطورات والتحولات السياسية والعسكرية والحزبية. كان ذلك بمثابة تحوّل أتى تكميلاً لما سبقه من إخفاقات في الاقتصاد والحياة العامة أتت شيئاً فشيئاً لتُفضي إلى تأسيس الحصن الحصين «الدولة السلطوية». لقد انتهى الأمر إلى تلك «الدولة»، التي تحولت إلى دولة فاشلة. وبحلولها «دولة» قمعية، أخذت بعض المجتمعات العربية تراهن على ما سينشأ فيها وفي نهاياتها.

نعم، لقد ضبط الموقف وتحركه باتجاه اليسار (زيفاً)، وباتجاه اليمين (فعلاً) وتشكل مجتمع يعرف إمكاناته وحدوده وضوابطه، وأصبح من على رأس هذا المجتمع سيد الأشياء والعوالم، حتى النَفس الأخير.

وثمة طرفة لا يضاهيها إلا انهيار الجبل: كان بريجينيف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي قد بلغ من العمر عتياً. وظل مع ذلك على ما هو عليه، بحيث كان يحتاج لمن يقوم بإلباسه بدلته ونزعها عنه، إلى مرحلة الوفاة، لقد كان ذلك واحداً من الأسهم، التي أفضت إلى سقوط البلد. وبذلك، ظهر النزع الأخير في عالم الاشتراكية، ومثله على عالم الرأسمال والرأسمالية المتوحشة!

إن منظومة التسامح والكرامة والحرية كانت من أوائل المنظومات، التي سقطت وتشظت، فاكتشفنا المراحل الأخيرة لذلك من تطورات أخذت تظهر على نحو فاجع. فمقولة «الإنسان» جرى تخطيها عبر مقولة السوق، ومقولة «الأبنية البشرية» التاريخية المُفلسة في احتمال البشر من أجل الحفاظ عليهم. كما اتضح أن الاهتمام التاريخي اتجه أحياناً إلى الأديان بمثابتها حاملاً اجتماعياً وثقافياً نفسياً لتوزيع قيم الكرامة والحرية والتسامح. ولكن اتضح أن تفعيل منظومة هذه القيم مرتهن بحاملها أو بحواملها الاجتماعية الموجودة، والتي تحتاج إلى الترسانة التوافقية، التي يستأنس بها البشر ويضبطون حياتهم بقوانين العمل، والتعاون والتعايش السلمي.