مصطفى الفقى

تضرب العلاقات المصرية الخليجية بجذورها فى أعماق التاريخ السحيق منذ أن تحدث المصريون عن بر مصر وبر الحجاز وبر الشام فى إشارة إلى منطقتى الجزيرة العربية بما فيها دول الخليج والإشارة الأخرى إلى الشام الكبير حين كان امتدادًا أرضيًا لمصر قبل ظهور إسرائيل أو حتى حفر قناة السويس، ولقد حرصت مصر دائمًا على الارتباط بدول الخليج انطلاقًا من هوى المصريين تجاه البقاع المقدسة فى الجزيرة العربية كما حرصت مصر على دعم أشقائها فى تلك المنطقة القريبة منها وذلك قبل ظهور النفط وتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لسكان الجزيرة والخليج، وخرجت قوافل التعليم والثقافة والصحة والبناء والإعمار من مصر إلى شقيقاتها فى تلك المنطقة وتواكب ذلك مع ظهور الثروة النفطية، وعلى الجانب الآخر لم يبخل الخليجيون على مصر فى أزماتها الاقتصادية ولا حروبها العسكرية أو ظروفها الصعبة، كما ارتبط الأمن القومى المصرى بالأمن القومى لدول الخليج وتجلى ذلك فى مواقف كثيرة لعل آخرها حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت بعد غزو صدام حسين لها، وقد التزمت مصر دائمًا بعلاقات شريفة مع تلك الدول إدراكًا لأهميتها وحرصًا عليها وأن تكون فى حيازة ثقتها فذهبت إلى التشاور المستمر معها منذ عدة عقود، وعندما أطل عبد الناصر على المنطقة تحمس له الخليجيون حتى أن الأمراء من أبناء الملك عبد العزيز الكبير قد تطوعوا للقتال فى حرب عام 1956 وكان ذلك إبان العدوان الثلاثى الغادر على مصر وقبل أن تحدث القطيعة وتجرى محاولة تقسيم العالم العربى حينذاك إلى دول تقدمية وأخرى تقليدية، وأنا أتذكر الآن مشاهد عدة تؤكد متانة العلاقة بين مصر ودول الخليج فلقد سمعت رئيس وزراء البحرين يقول ذات مرة إن المدرسين المصريين من أعضاء البعثة التعليمية الدائمة كانوا يأتون إلى بلادنا ومعهم لوازم الدراسة حتى (الكراريس والأقلام)، كما زلنا نتذكر كيف خرج شعب الكويت فى طيبة فطرية يتطلع إلى السماء لعله يرى طائرة عبد الناصر فى طريق عودته من رحلته الشهيرة إلى الهند وباكستان عام 1959، ولقد كانت إذاعة صوت العرب هى الناطق الرسمى باسم الثورة سواء فى جنوب الجزيرة أو فى مناطق ساحل الخليج قبل أن تأخذ دوله شكل الكيانات السياسية الرسمية وتصبح دولًا معترفًا بها وذات تأثير فى الحياة السياسية الإقليمية والدولية، ولا أزعم أن العلاقات المصرية الخليجية قد كانت دائمًا سخاءً رخاءً ولكننى أعترف بأنها تعرضت لمطبات عدة فى مراحل مختلفة إما لتبنى القاهرة سياسات لم توافق عليها دول الخليج ولعل أبرزها ما جرى بعد أن وقع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات على اتفاقيات كامب ديفيد ولم يستوعب معظم العرب حينذاك دوافع ذلك الاتفاق الذى رأوا فيه خروجًا منفردًا عن سياق العالم العربي، كما تعرضت العلاقات لأزمات طارئة لعل أشدها وطأة هى تداعيات الموقف القطرى من مصر فى العقدين الأخيرين وهو ما أدى إلى أضرار جسيمة لا بالشعب المصرى وحده ولكن بشعوب الجزيرة والخليج أيضًا فضلًا عن الوطن العربى كله، ولعلى أسجل هنا ملاحظات ثلاث: 

الأولي: أن الثروة النفطية كانت نعمة ونقمة فى ذات الوقت فقد استفاد منها العرب ــ بغير استثناء ــ كما أن المصريين قد استفادوا منها أيضًا من خلال عشرات الألوف منهم الذين عادوا إلى بلدهم بعد سنوات من العمل فى دول النهضة النفطية إذا جاز التعبير، وعلى الجانب الآخر فإن المظهر السلبى يتمثل فى التفاوت الذى أحدثته الثروة بين دول الخليج وغيرها من الدول العربية وهو ما أدى إلى أزمة ثقة متبادلة لم تكن معروفة من قبل. 

الثانية: لقد أدى ظهور الثروة النفطية وتشابه الاقتصاديات الخليجية بالإضافة إلى التداخل القبلى والعشائرى إلى قيام مجلس التعاون الخليجى فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى لكى يكون أكثر التجمعات العربية نجاحًا واستقرارًا حتى أنه كان مضرب الأمثال ــ قبل الأزمة الأخيرة مع قطر ــ بسبب تجانس أعضائه وتماسك قياداته، ولكن اللافت للنظر أن النتيجة كانت هى اختزال الأمن القومى العربى فى أمن الخليج بالدرجة الأولى ولأن مصر تعتبر نفسها ظهيرًا تلقائيًا لتلك المنطقة فإنها أدركت مبكرًا أهمية العلاقات بينها وبين دول مجلس التعاون الخليجى لعلمها أن فى ذلك نفعا متبادلا ومصلحة مشتركة. 

الثالثة: إن دول الخليج العربى قد تصورت أحيانًا بوجود اختلاف بين ثقافة النهر (Cult of river) وثقافة الصحراء(Cult of desert) فظهرت بعض الحساسيات لا تجاه مصر وحدها ولكن تجاه دول أخرى مثل العراق ودول الشام، فضلًا عن الشعور العربى المشترك بمخاطر المد الفارسى فى منطقة الخليج والعراق وسوريا ولبنان بل واستهداف دول عربية أخرى فى صراع قومى تاريخى هو امتداد للمواجهة بين الفرس والعرب منذ القرن الأول الهجرى وربما قبله أيضًا. 

إننى أريد أن أقول إن العلاقات المصرية الخليجية علاقات شديدية الحساسية سريعة التأثر تحتاج إلى درجة عالية من الحرص عليها والحفاظ على متانتها برغم كل الظروف والتقلبات والأزمات ولا تنال منها أبدًا أن تكون هناك وجهات نظر مختلفة ولا رؤى متباينة فلقد قلنا فى مقال سابق إنه لم تعد هناك تحالفات كاملة ولا سرعات ثابتة ولكن الطرح الجديد للعلاقات الدولية المعاصرة يسمح بهامش مرحلى من الاختلاف لا يفسد للود قضية ولا يؤثر على العلاقات الاستراتيجية الطويلة المدى بين الأطراف المختلفة، والأمر فى النهاية يحتاج إلى درجة عالية من الحرص واليقظة ورغبة مشتركة فى علاقات مستمرة ومستقرة تستطيع أن تواجه التحديات وأن تتغلب على العقبات وأن تصب فى خانة المصلحة العربية العليا.