عبد الله بن عبد الكريم السعدون

التعليم النوعي هو السبيل إلى التقدم والتخلص من ثقافة ترى دونية المرأة، وترسّخ مفهوم سيطرة الرجل على كل مراحل حياتها واتخاذ القرارات التي تخصها نيابة عنها، وتغليف ذلك كله بغلاف ديني يصعب تفكيكه

كان سؤالي المفضل لها: كيف قمتِ بمتابعة تعليم أبنائك رغم أنك لا تقرئين ولا تكتبين؟ تفرح لهذا السؤال وتمسك بيدي لتشرح لي على راحة الكف كيف كانت تفتش دفاترهم كل يوم بعد عودتهم من المدرسة، تقول خالتي رحمها الله: بعد عودتهم من المدرسة أفتش شنطهم وأتصفح الدفاتر، ولأني لا أفهم ما كتب لهم، فقد كنت أبحث عن تصحيح المعلم بالقلم الأحمر، كنت أعرف علامة الصح والخطأ،.. وهنا ترسم علامة الصح والخطأ على باطن يدي.. ثم تواصل حديثها فتقول: إن رأيت علامة الخطأ ناديت صاحب الدفتر لأسأل عن السبب، وإن رأيت علامة الصح أثنيت وشجعت، وهكذا مع بقية أبنائي، وأتأكد بنفسي أن لا أحد منهم يتخلف أو يتأخر عن المدرسة، أحياناً أذهب إلى المدرسة وأسأل الحارس عنهم وأطلب منه أن يؤكّد لي ذلك بالإشارة إلى دراجاتهم الهوائية. وكنت حريصة كل الحرص على معرفة مع من يجلسون بعد الدراسة وحل الواجبات، وفي أحد الأيام وجدتهم عند ابن جارنا الذي ترك الدراسة ومن المدخنين، فدخلت عليهم وبيدي عصا وأخرجتهم وساروا أمامي إلى البيت وحرمتهم من الخروج في ذلك اليوم، كنت بالنسبة لهم الأم والأب، فوالدهم كان مشغولاً بتوفير لقمة العيش لنا. واليوم كما ترى كلهم والحمد لله أبناء ناجحون، ولديهم وظائفهم المحترمة وأسرهم الناجحة.

تذكرت ذلك الحديث الشيق والدرس المهم وأنا أشاهد وأقرأ ما يصرف على التعليم من مبالغ طائلة وجهد مضاعف دون الحصول على مردود يوازي ما يصرف عليه من مال ووقت وطاقة.

التعليم هو الاستثمار الأول لأغلى ما تملك الأمة، والطريق إلى زرع القيم والعادات الجميلة في المجتمع، وهو السبيل إلى صحة المجتمع نفسياً وبدنياً، وهو أفضل ما تملك الدولة لمكافحة الفقر وإخراج الفقراء من دائرتهم المظلمة، بل هو القاطرة التي تأخذ المجتمعات إلى الرخاء الاقتصادي والتمتع بمستوى معيشة جيد كما هو في الدول المتقدمة التي جعلت التطوير المستمر للتعليم في سلم أولوياتها. كل ذلك يمكن أن يقوم به التعليم على أكمل وجه بشرط ألا يمشي على قدم واحدة أو يحاول أن يطير بجناح واحد، فالبيت والأم بشكل خاص هي المكمل لدور المدرسة وعليه أقترح التركيز على الآتي:

أولاً: ستظل رسالة المدرسة قاصرة ما بقيت في معزل عن البيت وتفاعله مع المدرسة، وفي كل الدول التي زرتها وجدت أن لأولياء الأمور ارتباطاً وثيقاً بالمدرسة، ليس في متابعة دروس الأبناء بعد خروجهم من المدرسة فقط، لكن لهم مشاركات في أنشطة المدرسة الكثيرة، وأكثرهم يتطوع لتنظيم المناسبات التي تقيمها المدرسة، وفي بعض المدارس يدعى الآباء للمساهمة في ترميم المدرسة وتنظيفها في إجازة نهاية الأسبوع ليشعر الجميع أنها مدرستهم وعليهم الاهتمام بها، وعلى العكس من ذلك نجد أن المدارس لدينا وخصوصاً مدارس البنات قلاع معزولة عن المجتمع، بل ونحاول جاهدين أن نحجب عنها الشمس والهواء، ونجردها من كل شيء يدعو إلى الصحة والنشاط ومنه الشجرة والملاعب الرياضية. مشاركة الأمهات والآباء في أنشطة المدرسة قليل جداً ومثله حضور المناسبات إن وجدت.

ثانياً: المجتمع الذكوري هو أقل المجتمعات إنتاجاً، وأقلها نجاحاً في تربية وتعليم أبنائه، بل ويجتهد رجاله ونساؤه على حد سواء في التقليل من شأن المرأة وترسيخ ضعفها ودونيتها، وهذا هو ما يوجد مجتمعاً عليلاً لا يمكن أن يتقدم، فالمرأة لا تقل نشاطاً وقوة عن الرجل، بل هي الأكثر تحملاً وصبراً، وقد أوجد الله الاختلاف بين المرأة والرجل لا ليتسلط أحدهما على الآخر، بل ليكمل بعضهم بعضاً، فالمرأة هي أساس نجاح التربية والتعليم سواء معلمة أو أماً، والمرأة هي الأقدر على تعليم الصغار وتربيتهم، فقد منحها الله صبر الأمومة وحنانها لتقوم بهذا الدور التربوي والتعليمي.

ذلك الخوف غير المبرر من الاختلاط ومحاولة وضعه في ميزان واحد مع الخلوة المحرمة جعلنا نعطي القوس لغير باريها، ونسند تعليم الصغار في أخطر مراحل حياتهم لشباب بعضهم جاء إلى التعليم بحثاً عن الوظيفة وليس لأداء رسالة عظيمة، بينما يمكن أن تضمن الأعداد الهائلة من المتعلمات حسن الاختيار من بين أفضل المتقدمات، بل ومن حملة الشهادات العليا لتتولى تعليم صفوف الروضة والتمهيدي والابتدائية.

التعليم النوعي هو السبيل إلى التقدم والتخلص من ثقافة ترى دونية المرأة، وترسّخ مفهوم سيطرة الرجل على كل مراحل حياتها واتخاذ القرارات التي تخصها نيابة عنها، وتغليف ذلك كله بغلاف ديني يصعب تفكيكه، التعليم هو الأقدر على تصحيح المفاهيم السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية.