فيصل الجهني

تتجلى قيمة التسامح بحقيقة أن الإسلام لم يقض على ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى، بل أثراها بأن كسر شرنقتها الضيقة، لإدخالها في تشابكات إيجابية وفعالة هائلة وجديدة!

ثقافة اللاتسامح ظاهرة مركبة ومعقدة، أيديولوجية وسلوكية في وقت واحد، تؤطر أعمالنا الذهنية والمادية، تتحكم في تكوين المجتمعات، وتنعكس على تعبيراتها العامة والخاصة، لاسيما السياسية والأيديولوجية، لتصل في النهاية إلى نسيج العلاقات السائدة، التي تتقرر بها أفكار وسلوكيات الأفراد. ثمة اعتقاد شائع يرى أن الواقعي ينتج ويعين الأيديولوجي، الذي يعكسه ويسهم في توطيده عبر تظاهراته الفكرية-الشعورية، والمعرفية المتنوعة، وهذا الاعتقاد صحيح إلى حد كبير، حين يتعلق الأمر بثقافة اللاتسامح، فهذه ما إن تبلغ درجة من التكريس، وتتحول إلى بنية يتحدد بها الموقف الفكري والسلوك العملي للبشر، حتى تبدأ بإنتاج الواقع في تعييناته المختلفة، ثم تحوله إلى بنية عليا، تحيط بمكوناته الفكرية والثقافية والنفسية، لذلك تكون عصية على الاختراق، وتتقوقع على ذاتها بطريقة تجعلها قادرة على إحباط أي مسعى تغييري مهما كان منتظما وقويا! ثقافة التسامح هي منجز اجتماعي-سياسي-ثقافي-مدني، يرتكز على مشتركات تخترق مختلف مكونات الحيز المجتمعي، وتتحول إلى معياريات يغدو التمسك الطوعي بها جزءا من (مدنية) تحدد أفكار وسلوكيات أفراده، وتتحكم في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، وتضبط ما يستجد في حياتهم من وقائع وأفكار. هذا المنجز يتخطى السياسة مع أنه يخترقها ويلعب دورا تقريريا في تحديد طابعها وأبعادها وممكناتها، لذلك تعجز القوى السياسية عن إلغائه بمجرد أن يترسخ.
العجيب في الأمر أن التسامح يعد القيمة الأبرز والمكون الأكثر تأثيرا في ثقافتنا العربية الإسلامية خلال عصور ازدهارها، ولعل تلك القيمة تبرز في تنوع ثقافات وحضارات وهويات الشعوب التي دخلت في الإسلام، وتنوع أشكال تفاعله واندماجه معها. 
نشأ الإسلام في حاضنة فكرية وحضارية، فرضتها (إمكانات) ظهوره في منطقة مركزية ضمت أهم حضارات وقوى ومصالح العالم القديم، فجاء متأثرا بهذا الواقع التاريخي، الذي لعب فيه دورا مهما، من خلال تحوله إلى أرضية سهلت وقوع تفاعلات تاريخية من نمط جديد بين شعوب المنطقة المختلفة، وخاصة منها التي امتلكت موروثا حضاريا متقدما كاليونان والفرس والهنود، بالاستناد إلى إطار واسع من تسامح وانفتاح روحي وعقلي لا مثيل له.
كما تتجلى قيمة التسامح بحقيقة أن الإسلام لم يقض على ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى، بل أثراها بأن كسر شرنقتها الضيقة، وأخرجها من خصوصياتها المقفلة والجزئية، لإدخالها في تشابكات إيجابية وفعالة هائلة وجديدة! وفي هذه الأثناء فإن دولة الإسلام لم تكن عربية بالمعنى القومي الضيق، إلا خلال فترة قصيرة جدا، وإنما كانت مشروعا مفتوحا نحو الداخل والخارج، مثلما كان مجتمع الإسلام الممتد على العديد من المكونات العرقية والإثنية والثقافية.
حقا.. فإن غياب ثقافة التسامح أصبح أمرا مألوفا ومتناميا في مجتمعاتنا العربية، للدرجة التي أصبحت تراق معها الدماء، وتنفصل بها الصلات الدينية والوطنية لحد القطيعة والخصام.
الأمر الأكثر إيلاما وأشد فجيعة أنك لا تلبث أن تشعر بطيف من تسامح ديني ما، حتى تبرز تحزبات عرقية أو ثقافية أو اجتماعية شتى.. ليس ثمة تسامح في المنظور العام، فنحن أصبحنا طوائف مختلفة وأطيافا متناحرة فيما يختص بانتماءاتنا الدينية (في مستواها الأيديولوجي والفقهي)، وانتماءاتنا العرقية والمدنية والاجتماعية والرياضية في كافة مستوياتها الأليمة!
كانت المجتمعات في بلاد الله الواسعة تنوء بنوع واحد من التطرفات الطائفية، فلا نريد أن نتكفل نحن بجميع أنواع تلك التطرفات البغيضة! صدقوني إذا قلت إن ثقافة التسامح لا تزدهر في مجتمع الوعظ ورسائل الذكر، مهما كان الناس متدينين وطيبين و«حليلين»..
ثقافة التسامح لا تنشأ إلا بين (العقلاء).. فقط.