حسام عيتاني

يحتاج التمدد الإيراني في ميادينه العربية إلى ما يزيد عن التفسير الجيو- استراتيجي والسياسي والمذهبي والاجتماعي. يحتاج إلى وعي يؤطره ويقدمه كحركة تاريخية لا سابق لها للتقدم إلى مثال مُحقق، نحو اليوتوبيا التي ستحلّ مشكلات العالم بأسره، بأفراده وجماعاته وشعوبه.

الاكتفاء بحديث عن «مشروع» أو حلم امبراطوري لا يفي الموضوع حقه. الأكلاف والضحايا والخسائر والأخطار التي يواجهها المحور الذي تقوده طهران لا يمكن تفسيرها بحسابات محض مادية. ثمة بعد خلاصي- قيامي في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة يتأسس على وعي ملحمي للتاريخ. وعي يتلخص بضرورة محو آثار النكبة الكربلائية المؤسسة وإعداد العالم لمرحلة يسود فيها العدل القائم على الاختيار الإلهي الذي اختص به آل البيت.

السمة الجدلية الأولية، إذا صح التعبير، أي القدرة على تقبل تعدد الاتجاهات والمراحل في الوعي المذكور تكمن في الاعتراف بالصعوبات والتعقيدات وإمكان حصول انتكاسات وتراجعات، إضافة إلى الطرق الملتوية التي يسلكها الواقع والتي يتعين التعامل معها من دون الانحراف عن الهدف الأخير والنهائي وغير القابل للشك أو النقاش: مملكة السماء على الأرض. خريطة طريق لا تختلف كثيراً عن باقي اليوتوبيات التي تصورتها البشرية منذ جمهورية أفلاطون.

الصراع مع إسرائيل فصل في هذه الملحمة. كذلك الصراع ضد السنّة، وإن حمل الصراع هذا مقداراً أكبر من المرارة بسبب الشراكة في التاريخ. المواجهة مع أميركا حتمية لأنها القوة المسيطرة على عالم ينبغي أن يتحرر من طواغيته ليأتي صاحب الزمان. وعلى غرار كل الملاحم الكبرى، ثمة أحداث جانبية وشخصيات ملتبسة وقصص لا تشكل متن الحدث لكنها تجذب الاهتمام لفترة.

ليس مفاجئاً في هذا السياق تكريم شخصيات من نوع أبو علي المهندس، أحد قادة «الحشد الشعبي» العراقي، وتبجيله وتجاهل التقارير الدولية (وآخرها يوم أمس) عن انتهاكات وفظائع يرتكبها «الحشد» في المدن التي يحتلها. فلا تناقض بين الأدوات الآنية التي يستخدمها المهندس وجنوده والهدف النهائي الذي يسيرون إليه. الغاية والوسيلة قادرتان على التعايش بوئام هنا.

يتردد صدى هذا الوعي الملحمي في ملاحم موازية تجري في أيامنا. لفلاديمير بوتين ملحمته لإحياء «الروسيا» التي يقودها لإزالة كارثة سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الدولة العظمى الثانية. ولدونالد ترامب ملحتمه «لإعادة أميركا عظيمة مجدداً» بعدما قضمها الغرباء الأجانب والجبناء المحليون. وورث نيكولاس مادورو عبء إكمال ملحمة هوغو تشافيز لإقامة اليوتوبيا البوليفارية في فنزويلا أولاً ثم بسطها على أميركا اللاتينية. ولا عجب أن تجد الملاحم هذه استحساناً عند مناصري المحور الإيراني، بما فيها تلك التي يدعو إليها ترامب قبل أن يقصف مطار الشعيرات السوري.

يحصل أن تتحد هنا الخرافات. لكنها تصطدم في مكان آخر مع الوعي الملحمي السنّي الساعي إلى تأسيس الخلافة الكونية (مسألة المهدي اقل الحاحا في الوعي السنّي حيث تحتل الخلافة مركز الصدارة، مع الأخذ في الحسبان مجموعة الشرائط التي من بينها انتساب الخليفة إلى قريش، وهو ما أصر عليه أبو بكر البغدادي عند إعلانه نفسه خليفة في ظهوره الوحيد في مسجد الموصل، على سبيل المثال).

جانب من مأسوية الصراعات في هذه المنطقة، استناد المنخرطين فيها إلى صنوف من الوعي الملحمي تجعل تفكيكها والعودة منها إلى حسابات الربح والخسارة والمصالح العقلانية وعلاقات الجوار والتبادل المتكافئ من المستحيلات، قبل وقوع صدامات جحيمية ربما ما زلنا على عتباتها.