FINANCIAL TIMES

اقتصاد ما بعد الأزمة المالية يتطلب مقاربات جديدة

 

 

 مارتن ساندبو من لندن

الحقيقة الأكثر إثارة بشأن الأزمة المالية العالمية وعواقبها هو إلى أي مدى كانت استجابة السياسة عادية للغاية. هذا هو بمثابة تغيير عن التاريخ الاقتصادي السابق.

خلال القرن الماضي وأكثر، الأزمات السياسية والاقتصادية الأعمق أنتجت إصلاحات تحويلية. الأمر مختلف هذه المرة.

الصفقة الجديدة التي أصدرها فرانكلين روزفلت كانت مثال الأزمة التي تحوّلت إلى فرصة. في غضون أشهر من تولي المنصب في عام 1933، كان روزفلت قد أزال الدولار من الذهب لإنعاش الاقتصاد، وأغلق وأعاد فتح النظام المصرفي بعد تجهيزه بنظام تأمين الودائع، وأطلق برامج أشغال عامة كبيرة، ونظّم وول ستريت بشكل جذري وأدخل الحد الأدنى للأجور. وسرعان ما تبع ذلك الضمان الاجتماعي، وتحرير التجارة وإصلاح سياسة الإسكان.

الصفقة الجديدة كانت استثنائية في فرط نشاطها، لكن الأزمات الأخرى، أيضاً، شهدت جهودا واسعة النطاق لإعادة صياغة أنظمتنا الاقتصادية.
في أواخر القرن الـ 19، أدى عدم الاستقرار المالي المستوطن والثروة المُركّزة بشكل متزايد، وقوة السوق في الولايات المتحدة إلىفرض ضريبة دخل دائمة، وبنك مركزي، وجهود سابقة من (ثيودور) روزفلت لتفكيك الاحتكارات.
بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك إجماع في جميع البلدان الغربية خلق اقتصادات مختلطة اجتماعية ديموقراطية، يبدو أن كثيرين يتوقون إليها الآن.
مقارنة بأي من هذا، فإن السياسات في العقد الماضي كانت ضعيفة. الأزمة المالية لعام 2008 كانت الصدمة الاقتصادية الأكثر عنفاً التي تضرب معظم العالم الغني في حياته. وبالكاد ظهرت أي جهود في مجال السياسة لمواكبة حجم التحدي.
صحيح أن الحكومات كبحت الأسواق المالية. وصحيح أيضاً أن التحفيز المُنسّق من المالية العامة لسنة 2009 أوقف الانكماش، إلا أن النظام المالي شهد تغييراً أقل بكثير مما كان في الثلاثينيات، والتحفيز انسحب بسرعة كبيرة جداً.
الاتحاد المصرفي في أوروبا قد يؤدي مع الوقت إلى تغيير جذري - على الرغم من أن المقاومة الشرسة تجعل من السابق لأوانه قول ذلك.
يبدو أن السياسة النقدية اتخذت الإجراءات في الوقت المناسب، رغم صعوبة ذلك. حتى الإجراءات "غير المسبوقة" التي اتّخذتها البنوك المركزية وصلت في الغالب إلى استخدام أدوات محسوبة بشكل جيد - عمليات شراء الأوراق المالية في السوق المفتوحة، وتخفيضات أسعار الفائدة - على نطاق أوسع من قبل. لم تكن هناك ثورة.
بشكل عام، فشل جيلنا من القادة في إظهار الجرأة التي اتسمت بها المواجهات السابقة مع التاريخ، فلو ظهر سياسي من معدن روزفلت في عام 2008، أو بالتأكيد في الوقت الحاضر، ماذا بوسعه أن يفعل؟ فيما يلي ثلاثة مقترحات ينبغي أن يُفكّر فيها أي مُصلح ملتزم. مثل الصفقة الجديدة، هي جذرية لكنها واقعية.
يجب على روزفلت المعاصر، مثل الأصلي، النظر في الإصلاح النقدي. الآن، كما هي الحال في ذلك الحين، المشكلة هي كيفية تجنّب كثير من السيولة في وقت الازدهار وقليل منها في وقت الكساد. لهذا قد يكون مستحيلاً طالما تكوين المال - والدمار - يبقى في أيدي المصارف الربحية في القطاع الخاص.
جزء صغير فقط من العرض النقدي يتألف من نقود مادية قامت البنوك المركزية بسكّها. الجزء الأكبر هو الودائع المصرفية، والمطالبات على المؤسسات المالية الخاصة التي تُنشأ عندما تُصدر تلك المؤسسات القروض.
لذلك في أوقات الوفرة، يتوسّع العرض النقدي بسرعة كبيرة، ما يتسبب في سوء تخصيص الموارد وتوقعات مستحيلة بشأن الدخل في المستقبل. عندما تتغير الأجواء، توجد االمصارف قليلا من المال لإبقاء النشاط مزدهراً، الائتمان الذي يُصدر في أوقات الازدهار يصبح سيئاً، ويبدأ انكماش الديون. إيجاد المال "غير المسبوق" من البنوك المركزية يعوّض هذا جزئياً فقط.
إذا كانت الإدارة الخاصة للعرض النقدي هي وصفة لعدم الاستقرار، فإن البديل الجذري هو تأميم العرض النقدي.
هذا أمر يُمكن القيام به اليوم: تستطيع البنوك المركزية تقديم حسابات لجميع أفراد الجمهور (أو جعل احتياطات البنوك المركزية متاحة للجميع).
كما يُمكن تقييد المصارف على تخصيص المدخرات القائمة للاستثمارات، بدلاً من إنشاء ائتمان جديد.
هناك أمر مهم آخر هو الأمن الاقتصادي. المسؤولون المتطرفون السابقون خلقوا شبكات أمان حيث لم يكن يوجد أي منها من قبل. اليوم لدينا دول رفاهية وفيرة، لكنها لا تزال تترك مجموعات كبيرة في ظروف محفوفة بالمخاطر. في بعض الأحيان يتم احتجازهم هناك، بسبب سحب المزايا السخية لذوي الدخل المنخفض مع ارتفاع الدخل، ما ينتج عنه من الناحية العملية معدلات ضريبية هامشية مكلفة للغاية لذوي الأجور المتواضعة.
الحل الجذري هو دخل أساسي عالمي، أي الاقتراح بدفع مزايا غير مشروطة لجميع المواطنين، بتمويل من الزيادات الضريبية. الفكرة يُعاد اكتشافها من قِبل كل جيل آخر؛ ربما قد حان الوقت لتنفيذها.
أخيراً، هناك إعادة النظر في سياسات مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة في مطلع القرن السابق، عندما وجّه القادة المقاومة الشعبية إلى قبضة الشركات النفطية والصناعية والسكك الحديدية الكبيرة. اليوم، شركات الإنترنت العملاقة تتمتع بهيمنة مماثلة. السياسي الشجاع سيسعى إلى إنهاء قدرة منصات الإنترنت على تشويه أسواقنا - وسياساتنا. خدمات الإنترنت ذات الوظائف الاقتصادية المماثلة للمؤسسات العامة ينبغي أن تخضع للتنظيم وذلك لجعلها تتصرف من أجل المصلحة العامة. كثير من الناس العقلاء سيترددون في اعتناق هذه الأفكار، لكن ماذا لو كان البديل ليس الوضع الراهن، بل السلطوية الشعبوية المتعصبة التي تتصاعد الآن؟
أعمق درس من عصر روزفلت هو أن الوسطيين الليبراليين يصنعون وسطيتهم بأيديهم، لكيلا تُفرَض عليهم السياسات المتطرفة غير الليبرالية من قبل السلطويين أو الشعبويين المتطرفين، باهتبال الأزمات.