عبدالحق عزوزي

 كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر للعلامة عبدالرحمن ابن خلدون يُعَدُّ موسوعةً تاريخيةً. يقع في سبعة مجلدات يتصدرها كتاب المقدمة. لم يخرج ابن خلدون في العبر عن الكتابة التقليدية للتاريخ،

غير أن مقدمته تميزت بموسوعيتها من جهة واحتوائها على عدة آراء وأفكار جعلت الباحثين يعتبرون الرجل مؤسساً لعلم الاجتماع. هذا الرجل العلامة تأمل في الظواهر الاجتماعية والأسباب التي تتحكم فيها مما جعله يكتشف قواعد التطور التاريخي للمجتمع، وأسس لعلم كان أول من استنبط قواعده وسماه بعلم العمران. ونظر ابن خلدون إلى المسائل السياسية في حركتها المديدة الفاعلة في العمق، كما كانت له الجرأة الفكرية في مناقشة بعض الأمور التي لم يتطرق إليها أسلافه، وكان ذكياً وبارعاً في التأصيل العلمي لبعض العلوم كفن التأريخ الذي يرى فيه فنا عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط.

أستحضر هذا الكتاب لأنه ذو مغزى إستراتيجي كبير خاصة في جانب بناء الأمم والأمصار وكيف يجب أن تكون اللحمة وقواعد العيش المشترك، ولأن تحقيق الوفاق والمصالحة وتوطيد دعائم الأمن وتجذير الثقة في الدولة من أهم مقومات البقاء.. والثقة هي الوقود المحرك في هذا كله.. فالثقة بين الدولة والمجتمع والتي شهدت في العقود القليلة الأخيرة انخفاضاً حاداً بكل المقاييس المتوافرة في العديد من الدول، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح سياسي من النجاح إلا بالاستناد إليها، لا يمكن أن تعزز إلا إذا شعر كل مواطن بأن دولته قد بادرت إلى الاستقواء بمجتمعاتها كي تقاوم معه، وبه، مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل، وكي تثبت معه ركائز عقد جديد بين الدولة والمجتمع وتقوي تماسك اللحمة الحامية للدولة من مؤسسات بناء على قواعد جديدة عكس ما نراه في الكثير من الدول كليبيا وسوريا وغيرهما.

فتجذير بناء الثقة واحدة من القواعد التي تبنى عليها الأوطان السليمة، لأن غرس الشك المستمر في أذهان الناس وعوامهم يورث الريبة والسخط، ويخلق أمارات الفتور والتوتر، ويجعل الناس لا يصدقون ممثليهم، وتحصل في النفوس من التكاسل ما لا يمكن وصفه فيقصر الأمل.

ومشكل غياب الثقة قد يعتري حتى الأنظمة السياسية الغربية، ويكفيك أن تطلع اليوم على وسائل الإعلام الفرنسية، لتجد أن تراجع شعبية الرئيس الفرنسي وتداعيات ذلك هي أبرز مواضيع الساعة عند المحللين والإستراتيجيين بل وحتى عند الأناس العاديين. فقد كشف استطلاع للرأي أجراه المعهد الفرنسي للرأي العام (إيفوب) أن شعبية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تراجعت إلى 40 بالمائة في شهر آب - أغسطس، أي بمقدار 22 نقطة مئوية منذ أول استطلاع للرأي أجراه نفس المعهد عقب فوزه بالرئاسة. وأصبحت نسبة الراضين عن أداء الرئيس الجديد 40 % أي بتراجع قدره 14 نقطة مئوية خلال شهر تضاف إلى 10 نقاط كان خسرها في تموز- يوليو.

وبالمقارنة مع سلفيه فإن شعبية الاشتراكي فرانسوا هولاند كانت في الفترة نفسها من العام 2012 أكبر بكثير (54 %)، أما شعبية اليميني نيكولا ساركوزي فكانت في نفس الفترة من العام 2007 أكبر بفارق شاسع (67 %). وفي آب - أغسطس قال 36 % ممن شملهم الاستطلاع إنهم «راضون إلى حد ما» عن أداء الرئيس (-11) بينما قال 4 % منهم إنهم «راضون للغاية» عن أدائه، (-3)، بالموازاة فإن نسبة غير الراضين على أداء الرئيس ارتفعت من 43 % في تموز - يوليو إلى 57 % في آب - أغسطس.

إن هاته الأرقام الكثيرة والمقارناتية في مسألة علاقة الحاكم بالمحكوم في فرنسا تحيلنا إلى مبدأ سام في أدبيات العلوم السياسية لعالم اليوم، وهو مبدأ الثقة، فبدونه يمكن للدولة أن تتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف؛ لذا كانت الثقة مرتبطة دائما بالنهج العقلاني في تسيير الدول ومؤسساتها، وذلك يكون مبنياً على تلبية احتياجات الأجيال الجديدة. وكلها مبنية على العدل والتوافق والإيثار والمصلحة العليا؛ وهي القواعد الرشيدة للحكم.. وعيدكم مبارك سعيد.