عبدالله بن بجاد العتيبي

 ذاكرة البلدان مثل ذاكرة الأفراد لجهة حاجتها الدائمة للجمع والحفظ والترتيب، ومن هنا تقوم البلدان حول العالم بالاهتمام بالآثار والمتاحف، التي توضح عمقها التاريخي، وغزارة ومكانة تراثها المحلي، وتنشئ لذلك وزاراتٍ تعتني بالتراث وتدعم مكانته وتسجله في المنظمات الدولية مثل منظمة اليونيسكو، وتتطلع لإظهاره وتوثيقه وعرضه للعالم، إما لغاية توثيق وترسيخ المشروعية السياسية أو لتعميق الثقافة أو لخلق استثماراتٍ سياحية كبرى، أو لغيرها من الأغراض.

وفي التاريخ تنشط الدول في عرض قراءتها التاريخية لتراثها وميراثها بحسب كل فترةٍ تاريخيةٍ، وظروفها ومعطياتها، وهي بحاجة دائمةٍ لرتق ثقوب الذاكرة الوطنية، وذلك بإنشاء مراكز لحفظ التاريخ ووثائقه وأحداثه، بمكتباتٍ عامةٍ، كبرى وصغرى، وبجمع الوثائق والصور، وبالتعاون مع أراشيف الدول الأخرى، كبيرةً كانت أم صغيرةً، والتعاون مع أصحاب الأراشيف الخاصة، وبناء أرشيف وطني شامل قادر على توفير كل احتياجات الدولة وكل مطالب الباحثين.

توفير المعلومة التاريخية، هو بحد ذاته قوةٌ لأي دولةٍ، تتعامل مع تاريخها كمعطى تاريخي، يزيد من قوة الواقع ويدفع باتجاه المستقبل، ويمنح الباحثين حقهم الكامل في الاطلاع والبحث والتحليل، لأن مسألة القراءة والتأويل لأي تراث وتاريخ هي أمر مفتوح للباحثين، يردون على الكتب والوثائق والمصادر ويخرجون منها كلٌ بمنهجه الذي ارتضاه وبرؤيته التي اختارها، وبموضوعه الذي حدده.

ومن الجيد فتح مدارس التأويل والتفسير للتراث والتاريخ، لكل الباحثين والمؤولين، فذلك يمنح آفاقاً جديدةً ورؤى أكثر تماسكاً، إن لجهة تفسير التاريخ وإن لجهة توظيفه للمستقبل، ومن أوضح الأمثلة في هذا الإطار، كتاب عبدالعزيز التويجري "لسراة الليل هتف الصباح"، وكتاب "عند الصباح حمد القوم السرى" في التاريخ السعودي الحديث، فقد قدم للعموم عشرات الوثائق، وقدم تفسيراً مقبولاً للصراعات التي كان يظن البعض أنها بلا حلٍ، وأن عرضها قد يكون فيه إضعافٌ للدولة، واتضح العكس تماماً، فقد كانت الوثائق ضمن الإطار التأويلي الذي قدمه مانحةً لأفقٍ جديدٍ.

وكمثالٍ عملي في هذا السياق، فقد كتب كاتب هذه السطور بحثاً عن العلاقات بين جماعة "الإخوان" والمملكة العربية السعودية، وسعى لجمع الحقائق والمعلومات من مصادرها وعرضها بطريقةٍ مفيدةٍ، وكانت مع أصعب المراحل البحثية التي كان يجب النظر فيها مرحلة الملك فيصل، وطبيعة العلاقة حينذاك كانت تتداخل فيها العديد من المواقف السياسية والصراعات الدولية والإقليمية، وكان الباحث يستشعر أمراً ولكنه لم يجده في المصادر، وقد أرسل لي الصديق الباحث راشد العساكر مقطعاً لحوارٍ للأمير عبدالله الفيصل ذكر فيه موقف الملك فيصل من هذه الجماعة، اختصره في قوله في لقاء مع الأستاذ عبدالرحمن الشبيلي، في برنامج بعنوان "شريط الذكريات" التي بثه التلفزيون السعودي عام 1976 تقريباً بقوله الدقيقة 53: "أذكر لك مسألة مثلاً، أيام شوطة الإخوان المسلمين، جيته يوم في الشيبية وإلا عنده عابديني (يقصد عبدالحكيم عابدين) فطوّل الجلسة معه ولا طلع إلا عقب المغرب، وقال: هذا عابديني، قلت: طال عمرك تعتقدون ينجحون أو يفشلون؟ قال شف يا ولدي: إن كان دعوتهم صادقة وإنها لرفع كلمة لا إله إلا الله فلا تظن إن فيه قوة في الأرض تبي تقاومهم، وإن كان إن هم متخذينها سلّم لغاية فهم يفشلون".

يعرف الباحثون قيمة نوادر الكتب والمصادر والحوارات، أو بعض المعلومات من غير مظانها، فبعضها يشكل الحصول عليه فتحاً للباحث في موضوعه يمنحه القدرة على معرفة أعمق وربما يمنحه تفسيراً مهماً كان يستحضره أثناء عمله البحثي، ولكنه عجز عن توثيقه، فالوقوف عليه في أحد المصادر يشكل نقلةً مهمةً لتعزيز البحث. وكل عامٍ وأنتم بخير.