صالح القلاب

 كان على البريطانيين ألاّ يتأخروا ثلاثين عاماً لإعادة التحقيق في اغتيال رسام الـ«كاريكاتير» الفلسطيني ناجي العلي الذي اغتيل برصاصة غادرة أطلقت عليه من الخلف بأحد شوارع لندن، وقد جرت تحقيقات في ذلك الحين لم تُشْفِ غليل أسرته وأهله وأصدقائه ومعجبيه، وتم طي ملف تلك الجريمة النكراء، وحيث كانت التأويلات، بل والاتهامات كثيرة جداًّ طالت جهات متعددة، من بينها جهات فلسطينية، ومن بينها بالطبع إسرائيل التي كانت ولا تزال هناك قرائن وأدلة متعددة على أنها هي من ارتكب هذه الجريمة.

كنت زاملت هذا الفنان المبدع حقاًّ والوطني الفلسطيني الملتزم حتى النخاع الشوكي، كما يقال، لبضع سنوات في صحيفة «السفير» اللبنانية، وأيضاً في اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وكان يحرص يومياًّ وفي ساعات ما بعد الظهيرة على المرور بأقسام هذه الصحيفة وبخاصة قسم العربي والدولي الذي كنت أحد أركانه قبل أن يرسم كاريكاتيره الذي كان دائماً وأبداً لوحة فنية، وكان في غالبية الأحيان يتناول مستجداً من مستجدات القضية الفلسطينية.
بدأ ناجي العلي مشواره السياسي من مخيم عين الحلوة في صيدا اللبنانية بالانضمام إلى حركة القوميين العرب التي كان قد أسسها الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد، وعدد من «الطلائعيين» العرب الذين كانوا التقوا في الجامعة الأميركية في بيروت، وهو لم يكن ميالاً لحزب البعث على الإطلاق، كما أنه لم يكن ميالاً لحركة «فتح»، مع أنه كان يحترم بعض قادتها ورموزها وتحديداً خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وماجد أبو شرار، وبصورة عامة فإنه كان يعتبر أنه لا طريق في اتجاه فلسطين وتحريرها إلا الكفاح المسلح.
لم يكن ناجي العلي، باعتباره رافضاً لأي حلول سياسية للقضية الفلسطينية معجباً بأداء الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ولا بمواقف وسياسات حركة «فتح»، لكنه، على عكس ما كان يشاع في ذلك الحين، لم يكن مضاداً لـ«أبو عمار» ولا لحركة التحرير الوطني الفلسطيني التي هي كما هو معروف قد أطلقت أول رصاص الكفاح المسلح في الفاتح من عام 1965 بعملية عيلبون التي قادها الرئيس الفلسطيني الراحل نفسه.
كان ناجي العلي بـ«رسومه» المعبرة الجميلة شديد العنف والرفض لبعض السياسات الفلسطينية، لكنه لم يكن معادياً، ولا كارهاً لا لمنظمة التحرير ولا لرئيسها، وأذكر أن عشاءً بطابع «تصارُحي» في بيت أحمد عبد الرحمن رئيس تحرير مجلة «فلسطين الثورة» قد جمع صاحب ورئيس تحرير صحيفة «السفير» اللبنانية طلال سلمان ومعه بلال الحسن وهذا الرسام الفلسطيني المبدع، وأنا بـ«ياسر عرفات» الذي لم يكن قد حمل لقب رئيس فلسطين بعد.
لقد كان بعض الحضور، وفي مقدمة هؤلاء طلال سلمان، يعتقدون أن اللقاء مع عرفات سيكون صاخباً ومتوتراً على اعتبار أنه كان عائداً من أول زيارة له إلى تركيا، وحيث كان ناجي العلي قد أظهره، في رسم «كاريكاتيري» قاسٍ، جلاداً ينهال على لواء الإسكندرون العربي بسوطٍ شرطي هائج، لكن كانت المفاجئة أن (أبو عمار) بعد دخوله قد اتجه فوراً إلى هذا الرسام الفلسطيني المبدع واحتضنه بحنان أب وأخذ يشده إلى صدره وهو يقبّله بحرارة، ويقول له: «طبعاً يجب أن تكون قاسياً في نقدك لي ولغيري، لأن فلسطين فوق الجميع، ولأنها تستحق أن يكون نقدنا لبعضنا بعضاً قاسياً من أجلها لأنها... فلسطين»!
بعد الخروج من لبنان في عام 1982، وكان ناجي العلي أحد قلة قليلة حافظت على صدور «السفير» طوال فترة الحصار الطويلة المضنية، بينما اختفت الصحف اللبنانية كلها، ومن بينها حتى صحيفة «النهار» التي كانت تعتبر أم الصحافة اللبنانية، اشتد الخلاف بين المحاور الفلسطينية الرئيسية على مشاريع الحلول السياسية المطروحة، وكان أهمها مشروع فاس الثانية الذي كان رفضه حافظ الأسد ومعه قائد من «فتح» وبعض التنظيمات «اليسارية»، وحقيقة أن هذا الرسام الفلسطيني المبدع كان الأكثر تمثيلاً لجبهة الرفض هذه، وذلك مع أنه لم يكن جزءاً منها، وهو كان انتقل من بيروت إلى الكويت، وبدل صحيفة «السفير» اللبنانية أصبح الواجهة الفعلية لصحيفة «القبس» الكويتية.
والمهم أن هناك مخاوف حقيقية بأن القرار البريطاني الأخير بإعادة فتح ملف اغتيال ناجي العلي قد تكون وراءه جهات معادية للقضية الفلسطينية أرادت تجديد اتهام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بتلك الجريمة النكراء، وهنا يقيناً أنه إذا حدث هذا، فإن إسرائيل ستكون المستفيد الوحيد من تشويه الفلسطينيين ونضالهم من خلال إلصاق جريمة بكل هذا الحجم وبكل هذه الأبعاد وفي هذا الوقت بالذات بمنظمة التحرير الفلسطينية.
عندما انتقل ناجي العلي من الكويت إلى لندن، أحاطت به بعض «شراذم» ما يسمى اليسار العربي الذين حاولوا الظهور بالمزيد من التحامل على منظمة التحرير الفلسطينية، ولقد بادر هؤلاء بمجرد وقوع جريمة اغتيال ناجي العلي، إلى الاصطفاف إلى جانب إسرائيل، وإلى جانب نظام الأسد ومعه الجبهة الشعبية – القيادة العامة و«فتح» – المجلس الثوري بقيادة صبري البنا «أبو نضال» واتهام ياسر عرفات بارتكاب تلك الجريمة البشعة؛ وذلك لأن هؤلاء جميعاً قد ظنوا أن اللحظة المناسبة قد حانت للانتقام من «أبو عمار» ومن «فتح»، وأيضاً من منظمة التحرير التي كانت اعتبرتها قمة الرباط العربية ممثلاً شرعياًّ ووحيداً للشعب الفلسطيني، وهذا ما هو جار الآن حتى بعد كل هذه السنوات الطويلة.
كان في تلك الفترة قد بدأ التحول الأوروبي والبريطاني اللاحق تجاه منظمة التحرير الفلسطينية؛ ولذلك فإنه كان في مصلحة إسرائيل تحديداً أن تلصق تهمة اغتيال فنان فلسطيني ذائع الصيت ومبدع برئيس هذه المنظمة؛ ليتم إظهارها بأنها كالقطة التي تأكل أبناءها، وذلك رغم أن أيدي الإسرائيليين كانت قد تلطخت بدماء عدد من خيرة المبدعين الفلسطينيين، من بينهم وائل زعيتر، وكمال ناصر، وماجد أبو شرار وغسان كنفاني، وغيرهم. لكن، ورغم أن ما يمكن اعتبارهم شراذم ما يسمى اليسار العربي قد قدموا، وعن غير قصد، خدمة لـ«الموساد» الإسرائيلي لا تقدر بثمن عندما استقتلوا في ترويج اتهامات كانت من اختراعهم ولا أساس لها على الإطلاق بأن ياسر عرفات وراء اغتيال ناجي العلي، وأن عملاء فلسطينيين للأجهزة الأمنية الإسرائيلية هم الذين اغتالوا هذا الفنان المبدع وبادروا لإلصاق التهمة برئيس هذه المنظمة، أي منظمة التحرير. 
وهكذا، فإن ما يمكن أن يقال في النهاية هو أنه إذا انتهى التحقيق إلى اتهام عرفات ومنظمة التحرير مجدداً وبغض النظر عمن استندت إليهم الأجهزة الأمنية البريطانية في فتح ملف هذه القضية مجدداً وبعد ثلاثين عاماً، وحتى وإن كان هؤلاء من الفلسطينيين فإن الدافع، دافع الإسرائيليين، هو التغطية على أنهم وراء اغتيال الرئيس الفلسطيني السابق، ولذلك فإن أي إثارة جديدة لهذه المسألة ستكون بمثابة اغتيال جديد لناجي العلي الذي تدور شكوك كثيرة بأن «الموساد» الإسرائيلي هو الذي اغتاله.