رؤوف قبيسي

"إنا للبنان وإن إليه راجعون"، هذا ما كان يقول الراحل خليل رامز سركيس، وما كان يوماً عنواناً لمقال نشرتُه في صحيفة "النهار" قبل سنوات، بعد جلسة طويلة بيني وبينه في لندن، لكن الظروف لم تشأ أن يعود الخليل إلى لبنان إلا كجثة هامدة، وآثر أن يودع الدنيا وهو على بعد الوف الأميال من الوطن الذي أحب، وفي شقة هادئة من شارع لندني هادى، يخيم الشجر عليه من كل جاتب، ويدعى شارع شجرة التوت.

رحلة طويلة من زقاق البلاط في بيروت حيث ولد ونشأ وتعلم، إلى منطقة كنزغتن في لندن حيث أمضى السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته. سيرة غنية بالعبر والمآثر والتجارب والأفكار والهواجس والخيالات، دونها سركيس في مؤلفات أدبية وفلسفية بأسلوب اتسم بالفرادة والمتانة والتطرية الفنية. كل الذين قرأوا ويقرأون اليوم مؤلفاته يعرفون ذلك، ويعرفون أن الخليل كان من الأدباء النادرين لغة وفكراً وأسلوباً. ما عساي أقول عنه وقد رحل؟ لن أكون ناقداً ولا باحثاً ولا مؤرخاً، وقد تناول الكتّاب مؤلفاته من كل جانب، بل صورة ذاتية هذه التي أحاول جاهداً نقلها. أقول جاهداَ لأننا مهما صغنا من الكلام لن نفي الرجل حقه، ولا تقدير قيمة أثره في حياة الذين عرفوه. 

هل يمكن أن تنشأ صداقة بين شخصين يكبر أحدهما الآخر بنحو ثلاثين عااماُ؟ كانت هذه حالي مع خليل رامز سركيس، بل لا أغلو إذا قلت أن الرجل كان بالنسبة إلي أكثر من صديق، كان بمنزلة أخ ووالد. كنت اشعر بهذه الصداقة وهذه الأخوة وهذه البنوة كلما زرته في شقته تلك التي لم يكن يبرحها بعد أن خانته قدماه. كان هو الذي يشعرني بهذه القرابة، وكنت أحسها بحنان.

لا ُينتظرُ من رجل كان يقول "أحاول أن أستحق لبنان"، وأحب لبنانه حتى العبادة، أن يرحل عنه، لكن الحرب الأهلية أوصلت القذائف ورائحة البارود إلى باب داره في الشطر الغربي من بيروت، فاضطر إلى الرحيل في العام 1979، واتخذ من لندن مقاماً، ظنه في البدء موقتا، شأنه شأن كثير من اللبنانيين الذي هجرتهم المحن، حتى إذا طالت الحرب ولم تضع أثقالها في زمن كان مأمولاً، بقي الرجل في لندن ليدون في ما بعد فصولا مؤثرة في كتاب أثير عنوانه "هواجس الأقلية من زقاق البلاط إلى كنزغتن". 

مفكراً رزينا متواضعا وغاية في التهذيب كان خليل رامز سركيس. حياته في سنواته الأخيرة كانت أشبه بسير النساك والفلاسفة. كنت أحبه، وكنت أغار عليه، وكنت كلما زرته في شقته تلك الوديعة أشعر وكأنني أدخل دار أبي، او دار صديق أعرفه منذ الطفولة. ليس كلاماً للتكلف، هذا الذي أدونه الآن، بل حقيقة لا تشوبها شائبة، ولا يدرك أبعادها إلا من عرف الخليل من كثب، وأحبه ذلك الحب الجميل. 

قلت إن سركيس كان رجلاً متواضعا وغاية في التهذيب. أذكر في الجلسة الأخيرة بيننا أنني جئت على بيت من الشعر كنت أعتقد أنه للشيخ ناصيف اليازجي، فأخبرني معلمنا سركيس، أنه للشيخ ابراهيم اليازجي. كأن سركيس، لشدة تهذيبه وتواضعه، شعر بالإحراج أنه صحح لي خطأ كنت أحسبه صواباً، فنهض من كرسيه وبعمره الذي جاوز التسعين وقال: تعال نتأكد، وأخذ بكتاب من الكتب التي تزين رفوف الصالون وفتحه، فأذا البيت هو فعلاً للشيخ ابراهيم، وليس لوالده الشيخ ناصيف.

على ذكر الشعر وغيره من شؤون الأدب، كان سركيس يتحلى بذاكرة قوية لم تعرف الوهن الذي أصاب جسده. كانت ذاكرته وحافظته تثيران إعجاب من يزوره، وبقي يتذكر الصغيرة والكبيرة في الأمور التي مرت في حياته. كان يحلو لي وأنا في حضرته أن أسأله عن لبنان الأربعينات والخمسينات والستينات، وقد شهد هذه العقود جميعها، كما كان يحلو لي أن أقف على رأيه في شعراء وأدباء عرفهم، مثل ميخائيل نعيمة، وسعيد تقي الدين، وفؤاد سليمان وخليل تقي الدين، والآخران كانا من معلميه في المدرسة الإعدادية التابعة للجامعة الأميركية في بيروت. كنت أشعر أن لديه إجلالاً خاصا لعالمين من علماء العربية الكبار هما أمين آل ناصر الدين، والشيخ عبد الله العلايلي، ولقامتين كبيرتين من رجال الإيمان هما الإمام موسى الصدر والمطران جورج خضر، وحباً خاصا لرجلين من رجال الثقافة والمعرفة هما الراحلان ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية، وغسان تويني. كان الخليل رجلاً جليلا حقا، أنيقاً في حديثه وملبسه وأسلوبه في الكتابة، شديد الملاحظة، حريصاً على الدقة، وكنت شديد الإعجاب بهذه الميزة في شخصه، وهي ميزة كثيراً ما يفتقر إليها الكثيرون في حياتنا الثقافية العربية، المشوبة أعمالهم ورسائلهم بالارتجال والنسخ والنقل والاستسهال!

يتحسر المواطن الحر، حين يسمع عن رجل له ما كان لخليل رامز سركيس من مكانة وعفة وثقافة يهاجر من لبنان. تغدو الحسرة أشد إيلاماً حين يشاهد هذا المواطن كيف أن لوردات الحروب، وزعماء الاقطاع الذين تهشم الوطن على يديهم، ما برحوا يتحكمون بمقدرات البلاد ويسلبون خيراتها، فيما رجل مثل خليل رامز سركيس، ورجال ونساء كثيرين من أهل الخير والمعرفة من المهاجرين، يرحلون في البقاع الغريبة!

هل في رحيل رجل مثل خليل رامز سركيس خارج لبنان شيء من خير؟!

قد يكون الأمر كذلك من وجهة نظرمعينة، لأن من يتنقل في شوارع لندن سيجد صحوناً معدنية مثبتة على جدر مداخل بعض البيوت، عليها كلمات مثل: هنا عاش الشاعر الفلاني، أو هنا سكن الفنان الفلاني، أو هنا توفي العالم الفلاني. كلمات تحفرها بلدية لندن على الصحون وفاء لمن كان لهم فضل على البشر، ولتبقى ذكراهم محفورة في الذاكرة الجماعية. من يدري، قد يأتي يوم وتضع بلدية لندن صحناً معدنيا على مدخل البيت الذي أمضى فيه الخليل السنوات الأخيرة من حياته بكلمات تقول:" هنا عاش الأديب والمفكر اللبناني خليل رامز سركيس". تحقيق أمنية كهذه أمر ممكن، إذا تحركت السفارة اللبنانية في لندن، وقدمت لبلدية المدينة معلومات عن خليل رامز سركيس كأديب ومفكر من لبنان، تناول شؤون بلده، لكنه تتطرق أيضاً إلى أمور فلسفية وكونية وإنسانية تتصل بالنفس البشرية العامة وهواجسها وشجونها. 

قد يكون ذلك حلماً قابلاً للتحقيق في مدينة وفية مثل لندن، تحفظ مآثر أبنائها، وذكرى عظام عاشوا فيها من الغرباء، لكنه أمر يكاد يكون مستحيلاً في وطن المعلم الراحل، لأن بلدية بيروت الموقرة تبدو دائماً مشغولة بأمور "أكثر أهمية"، وهي، بالتأكيد، لن تضع صحناً للذكرى على مدخل البيت الذي ولد فيه خليل رامز سركيس في منطقة زقاق البلاط، هذا إذا كان البيت ما زال بعد قائماً، لم تهدمه الحرب بعد، أو يحوله حيتان المال إلى مقهى للعبة النرد وتدخين النراجيل!