علي العميم 

أثارت الفنانة اللبنانية – إن كنا نذكر ذات رمضان – استياء الجمهور المصري بسبب الشتائم السوقية التي وجهتها إلى فريق برنامج «رامز عنخ آمون»، حينما حلت ضيفة عليه، وهو البرنامج الذي يقوم على صنع المقالب المروعة في ضيوفه. وكان أشد ما أثار استياء الجمهور المصري في شتائمها، سبها للدين ولعنه.
وينبغي أن يكون واضحاً أن سبها للدين ولعنه لا يعني أنها غير مؤمنة به، أو أنها تكنّ كراهية له، أو أنها تتبنى موقف المستخف والمستهتر به؛ إذ إنها – وهي في أثناء وصلة قذف شتائمها النابية – كانت تتشهد وتستجير بالله!
إن سب الدين وشتم المدركات المقدسة أمر مألوف وعادي عند كثير من اللبنانيين بكل طوائفهم، ويكاد يكوّن ثقافة عامة وشعبية مشتركة بينهم وبين من هم بجوارهم الجغرافي، كالسوريين والفلسطينيين، وإن كان هؤلاء لا يدركون شأو اللبنانيين في هذا الميدان. كذلك، هو جزء أساسي من قاموس شتائمهم إلى الحد الذي ينافس فيه الشتائم الجنسية، أو ما يصطلحون على تسميته «شتائم تحت الزنار». ويتخذ شتم المدركات المقدسة عندهم صوراً جنسية مقذعة ومسفة، تقشعر لهول سماعها أبدان حتى غير الصالحين، ويشمئز منها حتى الذين يفتقرون إلى الحس المرهف ويعوزهم الخلق المهذب.
حرر اللبناني المتمصر إسكندر مكاريوس، ابن الصحافي والأديب والماسوني العتيق شاهين بك مكاريوس، وصاحب مجلة «اللطائف المصورة» مقالة ذات يوم في مجلته هذه، ذاد فيها عن حياض اللبنانيين، لصد تهجمات بعض الصحافيين المصريين عليهم، فعدّد فضائلهم ومزاياهم، وأطرى قدراتهم وإنجازاتهم، وكان مما ساجل المصريين في مقالته تلك قوله – متباهياً بقومه وأهله – «يكفي اللبنانيين فخراً أنهم اخترعوا اللبنة بالزيت ومسبة الدين»!
هناك قول سائر عند اللبنانيين وعند السوريين والفلسطينيين يأتي في صيغة الطلب من شخص متردد أو متكتم في حديثه، كقولهم له: «بِقْ البحصة»، ويأتي في صيغة الإخبار، كقولهم: «فلان بِق البحصة».
وأصل هذا القول عبارة أطلقها البطريرك الماروني سمعان عواد الحصروني (ولد في أواخر القرن السابع عشر، وتوفي سنة 1756)، ليطفئ غضبه، وهي: «بِق البحصة يا أنطون».
وحكاية هذه العبارة التي صارت مثلاً - كما يرويها سلام الراسي - «أن البطريرك سمعان عواد كان عنده شماّس (خادم الكنيسة) اسمه أنطون، وكان جميل الصوت طيب القلب، فاكتسب بذلك ثقة البطريرك ومحبته، إلا أنه كان سبّاب دين بحكم العادة، وكلما زجره البطريرك بسبب شتيمة عابرة اعتذر وقال: إنها صدرت من دون إرادته. فأمره أخيراً أن يضع دائماً في فمه بحصة، فإذا طرأ ما يوجب السباب فطن إلى البحصة وارتدع. وحدث يوماً أن البطريرك كان يزور إحدى القرى، ولدى خروجه منها سمع امرأة تناديه من رأس الضيعة وتستحلفه بالقربان المقدّس أن يمر على بيتها، فرجع وأخذ يسير صعداً في طريق وعرة، رغم شيخوخته، ومعه أنطون المذكور، حتى وصل إلى بيت المرأة، وإذا بها تطلب منه أن يبارك لها «القرقة (في بلدان الشام يسمون الدجاجة الراجنة قرقة) والصيصان» فصاح بالشماس: «بق البحصة يا أنطون»!
حدثني صاحب كتاب «البيروني التائه» فاروق عيتاني، في أن ثمة بلدة، تنفرد عن البلدات والقرى السنية في لبنان في تفشي مسبة الدين لدى أهلها حتى عند المؤمنين الممارسين المؤدين للفرائض الإسلامية، وحتى عند المنتسبين للهيئة الدينية، كإمام المسجد وإمام الجامع!
استياء الجمهور المصري، في الأمر الأول، وهو توجيه هيفاء وهبي شتائم جنسية إلى فريق البرنامج الذي استضافها، لا يرجع لعفة وتعفف، ولا فقر في معجم المحكية المصرية، كما في معجم محكيات بعض مجتمعات البلدان العربية، فمعجم المحكية المصرية هو الأوسع والأغنى والأكثر تجدداً في العالم العربي حتى في ألفاظ السباب، وإنما العلة كانت تتوزع بين علة خاصة وعلة عامة.
العلة الخاصة، خاصة بهيفاء وهبي، فهي امرأة جميلة، واشتهرت في وسائل الإعلام، بأنها شخصية ودودة ولطيفة ومهذبة و(طيّوبة) ومسالمة. فظهرت في تلك الحلقة ـــ وهي في فورة غضبها ـــ بما لا يتلاءم ومستوى جمالها، وبما لا يتفق وتلك الصفات المشهورة عنها.
أما العلة العامة، فهي أن الشعب المصري، كما بقية الشعوب الأخرى، يصنفون الفتى والرجل والفتاة والمرأة التي تستخدم في السباب ألفاظاً غير لائقة ــــ سواء أكانت جنسية أم غير جنسية ــ تصنيفاً طبقياً واجتماعياً وتعليمياً وثقافياً وتربوياً وأخلاقياً، متدنياً وهابطاً. هذا التصنيف هو غير حاضر بقوة في لبنان، كذلك الهيراركية الصارمة التي كان يخضع لها المجتمع المصري في زمن سالف هي غير موجودة في بنية المجتمع اللبناني وتاريخه. فقد يكون أولئك في لبنان من أسرة محافظة أو متعلمة أو متمدنة أو من أرومة أرستقراطية أو يكون زعيماً وسليل زعماء، لكنه مع هذا، يشارك العامة شتائمهم، ويقاسم السوقة سبابهم!
ويجب ألا يفوتنا أن نذكر في مجال الخطاب السياسي، أن جمال عبد الناصر، كان أول زعيم سياسي في مصر وفي العالم العربي، استخدم في خطب علنية ألفاظاً فيها شتم وسب ساعة الاختلاف والخلاف مع حكام عرب وحكام غربيين وزعماء حزبيين في سوريا، وكان الزعماء السياسيون قبله في مصر حتى مع حمأة التنافس والصراعات السياسية والحزبية فيما بينهم، لا يتفوهون بألفاظ مسيئة أو نابية بحق خصومهم وأعدائهم السياسيين والحزبين، رغم أن بعضاً منهم مثلهم مثل جمال عبد الناصر أتوا من الطبقة الوسطى، ورغم أن بعضاً آخر من هؤلاء مثلهم مثل جمال عبد الناصر، يستهويهم الخطاب الشعبوي والديماغوجي.
ربما يعود ذلك إلى أن السياسة في زمنهم كانت محكومة بتقاليد أرستقراطية في التعبير عن لغة الاختلاف، وفي التصرف والسلوك السياسي والاجتماعي. فالشتم والسب في عرف ذلك الزمان يعد سلوكاً شائناً ومعيباً وقبيحاً، وخروجاً عن الخلق الاجتماعي والسياسي، القويم والنبيل والرفيع، فيخل بمقام الزعيم عند جمهوره ومحازبيه - قبل خصومه وأعدائه - وربما يهوي به إلى الحضيض، لكن مع صعود زعامته واستوائها لم يبالِ في تجاوز ذلك المحظور، ولم يؤثر فعله الفاضح على شعبيته بشيء لا في مصر، ولا في بقية البلدان العربية؛ لأن ذلك العرف قد تغير وتبدل والمزاج قد انحدر والذوق قد تدنى، فالناس أصبحت تستسيغ شتمه وسبه، بل تطرب له وتستلذ به!
أحد أسباب استساغة ما كان في زمن مضى ممجوجاً وفظاً وغليظاً وكفيلاً بالحط من قيمة وهيبة الزعيم والحاكم وإسقاطه، هو سحر كاريزماه المخدرة التي تجعل المنجذب والمريد، لا يستبين وجه الصواب من الخطأ.
يذكر قدري قلعجي أن خالد بكداش، أمين عام الحزب الشيوعي السوري اللبناني، انتزع قيادة الحزب من فرج الله الحلو وعهد بهذه القيادة إلى نقولا شاوي؛ لأن الأول كان في تقويمه ينطوي على عيوب فادحة، منها أنه لا يشتم الناس! وقد جهد المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون في الدفاع عن تصرف صديقه بكداش المشين بشتى الأعذار والتبريرات.
في الأمر الأخير، وهو سب الدين ولعنه، كان من الطبيعي أن يستاء الجمهور المصري من هيفاء وهبي؛ لأن هذا الفعل أمر مستنكر وصادم ومستفز عندهم، وعند الشعوب العربية الأخرى.
أرجع تلك الخلة الصادمة المستفزة عند جمهرة من اللبنانيين إلى تعدد الأديان وتعدد الطوائف في لبنان إلى حد ليس فيه دين غالب وطائفة مكتسحة، وإلى التحول والانتقال من دين إلى دين آخر، ومن طائفة إلى أخرى الدين الواحد أو خارجه والتي جرت في تاريخهم القريب والبعيد.
يلحظ أن السباب ينصبّ على الدين، وهذا يعني أن الساب يسب ديناً غير دينه، فلا يجد غضاضة في ذلك. ويلحظ أن ذلك السباب لا يمتد إلى نبي المسيحية، عيسى، ولا إلى أمه مريم العذراء، ولا إلى قديس مقدم من قديسي الطوائف المسيحية، ولا إلى نبي الإسلام، محمد، ولا إلى علي بن أبي طالب ولا إلى ابنه الحسين. ذلك؛ لأن الدين في لبنان دين طائفة، حيث يتغلب الخاص والمختلف والمتمايز في الدين وفي الطائفة على العام والمؤتلف والمشترك فيهما. ولأنهم من واقع خبرتهم التاريخية بحوادث سابقة، يعلمون أن التعدي على الخاص الطائفي، تتلوه عواقب وخيمة. وبما أن الدين هو لجميعهم، تواطأوا على أنه لا تثريب عليهم في تدنيس حرمته لمجرد – كما يقولون في دارجتهم المحكية – «فشة خلق»!
وعلى نحو متدرج وبفعل ممارسة كانت طويلة الأجل، صار ذلك السباب المنصب على الدين، يستخدم فيما بين أبناء الدين الواحد وأبناء الطائفة والعائلة الواحدة!
ما تقدم، ما هو إلا سعي للفهم ومحاولة تفسير.