نبيـــل عمــــر

هيصة وزيطة ومزيكا وزغاريد ثالث أيّام عيد الأضحى المبارك، كنا فى كتب كتاب أو كما يقول النحاة فى عقد قران ميمون، وجلسنا بالقرب من المأذون، كان شابا يافعا، فى الثلاثين من عمره، ربما يبدو أكبر قليلا فى الجبة والقفطان، ملامحه مريحة أقرب إلى بساطة الريفيين من فهلوة أهل المدينة، وفجأة نط السؤال من على لسانى فى شقاوة بالغة: هو صحيح يا مولانا لماذا الزواج على مذهب أبى حنيفة النعمان وليس على أى مذهب آخر؟

أجاب: لأنه أخف وألطف بعباد الله.

أثارت الإجابة فضولا..فسأله خال العريس: كيف؟

قال: مثلا هو يكتفى بأى شاهدين لصحة العقد، أما الشافعى فهو يشترط شاهدين عدول.

رد الخال وهو محام متخرج حديثا: أى شاهد ذى أهلية ولم يرتكب جريمة مخلة بالشرف هو شاهد عدل.

رد المأذون: لا ليس صحيحا، هناك مهن لا يتمتع صاحبها بحق الشهادة العدول مثل عازف الموسيقي، وشهادته لا تجوز لأنه فى عرف الشرع فاسق.

صدمتنا الإجابة صدمة لورى يهبط من تل دون فرامل.

سأل أحدنا: يا خبر أسود، هل هذا صحيح؟، من أى نص قرآنى أو حديث نبوى متفق عليه جاء هذا الوصف لعازف الموسيقى أو مؤلفها؟

ببساطة قال: من فقه أهل الشريعة.

عقبت غاضبا: يعنى سيد درويش ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطى فى عرف بعض المذاهب لا يصلحون أن يكونوا شهودا على عقد قران!

سكت المأذون ولم يرد، وأحس الحاضرون أن المسألة دخلت فى الجد، وقد يتسع النقاش ويدخل الشعراء والفنانون إلى دائرة الممنوعين من الشهادة أيضا، فلملموا تساؤلاتهم ودفنوها خلف جدران سميكة، وعادوا إلى الفرفشة والدنيا الجديدة التى تٌفتح أمام عروسين.

لكن ما قاله المأذون بالضرورة يدفعنا إلى تفكير عميق وجاد: ألسنا فى حاجة ملحة إلى إصلاح فهمنا للإسلام والفقه؟، والإسلام هو الدين كما أنزله الله ويحفظه، والفقه هو التفسيرات والشروح كما فهمها بشر آمنوا بالرسالة ودرسوها وتعمقوا فيها، والإصلاح المراد هو المراجعة والفحص والدراسة وإعمال العقل حتى لا نظل أسرى تفسيرات وشروح قديمة، جرت فى زمن غير زماننا، ووفق معارف ضئيلة إذا قورنت بمعارفنا الحالية، وبعقول لم تتوافر لها مصادر معرفية للحياة والتصرفات كما تتوافر لنا، وإعمال العقل لا يعنى أن نبدل فى الدين ونعيد صياغته على هوانا ونبيح ما لا يباح، فلنا مرجعية وهى مقصد الدين وهو العدل، عدل مع الذات بأن نتقى الله ونطيعه، فنسلم من عقابه طمعا فى جنته، ونعدل مع الآخرين بأن لا نضر ولا نؤذى ولا نظلم ولا نقهر ولا نفسد، خاصة أن العبادة فى الإسلام تتجاوز الشعائر إلى إعمار الكون، والعمل على إسعاد خلق الله.

هل يا ترى يفهم المسلمون دينهم على هذا النحو الإنسانى العظيم؟

قبل شهور مزق طالبان أستاذا فى علم الاجتماع بجامعة نجلادش بالسواطير، لمجرد أنه عارض ارتداء طالباته النقاب فى لجان الامتحانات، تفاديا للغش، وتباهت جماعة سمت نفسها اأنصار الإسلام بنجلادش 2ب بالجريمة، وأرسلت تهديدا حادا على صفحتها بالفيسبوك: فليحذر كل المرتدين من أعداء الإسلام والملحدين.

وهو نفس التهديد التى تعمل به جماعة بوكو حرام فى نيجيريا أو جماعات إرهابية فى سيناء والعراق وسوريا ومالى وليبيا واليمن والجزائر..أو هؤلاء الذين يهرسون الأبرياء بسيارتهم فى بعض الدول الأوروبية.. الخ.

ومنذ أكثر من ثلاث سنوات أتابع بشغف قضية محمد الشيخ ولد امخيطر فى موريتانيا، ومحمد شاب أدانته محكمة بالردة عن الإسلام والإساءة إلى رسوله وحكمت عليه بالإعدام.

وكان محمد قد كتب مقالا على الفيسبوك يناقش الفرق بين الدين والتدين، فالدين أمر إلهى والتدين سلوك بشري، وهى فكرة صحيحة، لكنه أسرف على نفسه فى تفسير وتأويل بعض مواقف الرسول، فجرجره أهل التدين إلى المحكمة، وأخذوا عليه حكما بالموت، وهلل له العامة ودارت السيارات فى الشوارع تطلق أبواقها كما هو الحال بعد الفوز فى مباريات كرة القدم.

لكن محمد أفسد فرحتهم، إذ تراجع عما كتب، وتاب عنه وأعلن ندمه وقال أمام محكمة الاستئناف فى أوائل هذا العام: أشهد الله تعالى المتعالى على توبتى من كل خطأ اقترفته فى حياتى وأبرأ إليه تعالى مما أقدمت على كتابته فى ذلك المقال، وأقر بخطئى وأتضرع إلى الله طلبا لعفوه ومغفرته، وأطلب من المحكمة تفهم توبتى والتجاوز والعفو عن ذلك الخطأ الذى أشهدُ الله على توبتى منه، والتى أعلنتها سابقا وكتبتها أيضا فى المراحل الأولى للتقاضى وتم تغييبها، وصم الآذان عنها، وأُعلنها اليوم بإرادتى وبكامل وعيى توبة نصوحا لله ولا لغيره.

لكن منتدى العلماء والأئمة، وهو منتدى صاحب نفوذ كبير فى موريتانيا، كالنفوذ الذى كانت تتمتع به الكنيسة فى القرون الوسطي، رفض التوبة بناء على نصوص فقهية تقول بإعدام الساب للأنبياء حتى لو تاب، مما شجع مطربة شهيرة على غناء أغنية تطالب بإعدامه منتشرة على اليوتيوب..مع أن صوتها فى عرف المنتدى عورة.

وحين تقدم محامى الدفاع قبل شهور بتعديل تهمة موكله إلى ردة يستتاب منها وعقوباتها الحبس فقط، خرجت مسيرات شبه أسبوعية، على رأسها رجال دين ومحامون تضغط من أجل إعدامه.

والسؤالك إذا كان محمد الشيخ ولد امخيطر قد اجتهد وأخطأ، ثم تراجع وندم وتاب فلماذا يدوم عقابه؟

والسؤال الأخطر: هل يوجد نص فى القرآن الكريم يعاقب المرتد بالموت؟..طبعا لا.

باختصار لدينا وقائع مختلفة فى دول تفصلها بحار ومحيطات وجبال ولغات وثقافات، لكن العقل الذى يحكمها يكاد يكون متماثلا، عقل يحاصر نفسه فى حيّز ضيق، ويخاصم عصره مخاصمة عنيفة ودموية، لأن مرجعياته فى التفسير والمفاهيم متخلفة عن زمانه بأكثر من ألف سنة، ولم يجرؤ أحد أن يعيد قراءتها بمنهج جديد وفكر جديد، كما لو أنها تفسيرات وشروح مقدسة هى وصحيح الدين كيان واحد.

وإذا لم يحدث تصالح بين العقل والعصر على جسر من الفهم الصحيح للدين بعيدا عن تجاره وسلاطينه، فستظل السحابات السوداء فوق رؤوسنا، ولن يتوقف الإرهاب ولا العنف الطائفي، والأخطر أن فرص التقدم إلى الأمام ستظل هى والعدم سواء.