بكر عويضة 

 كل عام، سوف يطل سبتمبر ويرحل، لكن أيلول سيبقى، ما دام الزمان، شهر روائح دم مسفوح بباطل ظلم إنسان باع إنسانيته للشر، فظلم نفسه ذاتها قبل أن يُلحق مآسي ظلمات الظلم بخلقٍ آخرين. وما ذنب أولئك؟ لا شيء، فما ثمة خطأ ارتكبوه، ولا خطيئة جنوها، بل ذنبهم، ربما، أنهم وُلِدوا في موطن الآباء والأجداد، ثم جاء من غزاهم في عقر دارهم وأباح سفك دمائهم، أو، أيضاً ربما، لمجرد أنهم وُجِدوا في المكان الخطأ وفي التوقيت الغلط، فما دروا ما خبأ لهم القدر، ولهن، إذا ما انفلت عيار ضبط الشر من العقال، وما عاد بوسع أحد وضع ضوابط تكبح فظائع إرهاب تخطى كل الأعراف، حتى ما جرى التعارف عليه، بين محترفي القتال في جيوش مختلف الدول، من جموح حروب البشر.

بعد ظهر الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) قبل ستة عشر عاماً، كنت أمارس عملي من مكتبي بمقر «الشرق الأوسط» العتيق في «هولبورن». قبل تسع وعشرين سنة من تاريخ ذلك النهار، كنت أؤدي العمل الصحافي ذاته، إنما من مقر مكاتب صحيفة «البلاغ» الليبية بطرابلس. بين ما مررت به في الحالتين فرق شاسع يعكس ما يفرّق بين تفاعل معظم جيلي مع مفاهيم واقع 1972 وبين رفضي المطلق، كما أغلب مُجايليَّ، لوقائع 2001. في الحالة الأولى، كان بديهياً النظر إلى عملية ميونيخ (5 - 6/ 9/ 1972) من منظور عمليات ثأر فلسطيني مبرّر، خصوصاً بعد تطاول ذراع «الموساد» الإسرائيلي باغتيال قيادات فلسطينية غير معنية بالعمل العسكري، كما حصل مع مثقف مبدع من قامة غسان كنفاني، أو محاولة اغتيال مفكر ورجل بحث علمي مثل أنيس صايغ، وكذلك الصحافي المعروف بسام أبو شريف، وهي عمليات شهدتها بيروت قبل أشهر من هجوم ميونيخ.

في هذا السياق، لم يكن مستغرباً أن صورة مقتحمي البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية وُضعت في مصاف «الأبطال» على امتداد العالم العربي. سأظل أذكر كيف كان ردّ الفعل من جانبي عندما هاتفني الدكتور مختار بورو، محافظ طرابلس زمنذاك، ليفاجئني بعرض لم يخطر لي، ولست أظن أنه خطر، حينها، ببال أحد. خلاصة العرض المفاجئ كانت التالي: سوف تتم هذه الليلة معاينة جثامين «شهداء ميونيخ» بجامع بورقيبة، هل تود الحضور كصحافي ومعك مصور؟ للوهلة الأولى، لم أصدق ما كنت أسمع، فأعدت على مسمع المحافظ ما قال. أجاب: نعم، وهذا سبق صحافي. لم أتردد، بالطبع، وبعد كثير جهد اقتنع مصطفى التركي، مصوّر الجريدة يومها، أن يصحبني. ظهر اليوم التالي صدر عن «البلاغ» ملحق خاص أمضيت ساعات الفجر الأولى في تحضيره إلى جانب المصوّر، الذي رفض مغادرة المقر حتى صدور الملحق بصور الجثامين داخل الصناديق، ثم انطلق ليسجل التشييع بحضور جماهيري غير عادي.

في الحالة الثانية، قبل ستة عشر عاماً، لم يتطلب الأمر أي تردد، أيضاً، كي يوضَع مرتكبو، ومعهم مخططو جرم ما سُمي «غزوة واشنطن ونيويورك» في مصاف المجرمين. كان طبيعياً، ومحتماً، أن يرفض العقل والقلب معاً، أي «منطق» حاول تسويق جريمة إرهاب بذلك الحجم وتلك البشاعة. أنّى لأي عاقل أن يقبل ما حصل ذلك اليوم بأي تبرير سيق آنذاك، أو سوف يُساق من جانب كل مَن لم يزل على نهج تبرير الإرهاب يسير؟ الأسوأ أن جريمة سبتمبر 2001 جرّت معها تحت توصيف «الإرهاب» كل ما سبقها من عمليات، بما فيها عملية ميونيخ، وقد حصل هذا الجر بصرف النظر عن اختلاف الملابسات، أو الظروف. ليس القصد هنا، ولا المجال، للمقارنة، ذلك أن لكل مرحلة ظروفها التي تحكم شروط تقييمها. لكن ملخص ما ليس هناك كثير خلاف حوله، منذ صُعق العالم كله بجريمة 11 سبتمبر 2001، هو أن كل شيء تغيّر ذلك اليوم. فيما يخص قضايا العرب، وفي مقدمها فلسطين، «القضية الأولى» يوم كانت كذلك، فقد تقهقر إلى الوراء كل تقدم سياسي تحقق، والتراجع مستمر إلى الأسوأ، ولعل الآتي أعظم.