علي نون

بعد أسابيع معدودة على الغزو الأميركي للعراق وانطلاق «أمّ الحواسم»، وقف جورج دبليو بوش في مطلع أيار عام 2003، على متن حاملة الطائرات «إبراهام لنكولن» وأعلن «الانتصار» في الحرب.. من دون أن ينسى التذكير بأنّ الأمر «هو مجرّد نصر واحد في الحملة على الإرهاب».

تبيّن بعد لَأْيٍ، ونحو خمسة آلاف قتيل أميركي، وأكثر أو أقل بقليل من ألف مليار دولار، أنّ تلك الصيحة الديكية جاءت قبل أوانها. بل كانت تعبيراً خطيراً عن قصور في استيعاب مجمل المشهد العراقي والإقليمي! وعن استشراف أو توقّع مآلاته برغم القدرات الهائلة والعجيبة التي تمتلكها الولايات المتحدة في شؤون الاستخبارات المدنية والعسكرية ومراكز الأبحاث والدراسات والتحليل والسيناريوات والاحتمالات، والظاهرات والمخفيّات، والتلقائيات والمنظّمات، والمفاجِئات والمحسوبات!

استعجل مستر بوش في إعلان «الانتصار» مع أنّ المهزوم كان منهزماً منذ زمن! ولم يأتِ الغزو سوى لتثبيت النتيجة، ونقل المريض الذي هو نظام البعث من الموت السريري الذي أصابه منذ دحره من الكويت قبل ذلك الحين بثلاثة عشر عاماً، الى المثوى الأخير.

البعض في نواحينا هذه الأيام، يستعير تلك الصيحة ويستعجل في إطلاقها! ولا يتردد في التكرار الممل لها، ولا في زخرفتها (على غرار مسيو بوش) بالجملة الأشهر في عالم اليوم التي هي «الحرب على الإرهاب».. ولا تهمّ التفاصيل في الصادح الحديث مثلما لم تهمّ عند الصادح القديم.. مثلما لا يريد «المنتصر» الراهن تشويه صيحته بأي التباسات عويصة وغير مستحبّة وخصوصاً إذا كانت من نوع أنّه بين طرفة عين وانتباهتها تنقلب الدنيا من حال الى حال! عدا عن أنّ «الانتصار» المدّعى يستبطن في ذاته ألف هزيمة وهزيمة في القيم والفضائل والادعاءات والشعارات و«المقاومات» و«الممانعات» والانسانيات والأخلاقيات.. ويشتمل على احتمالات أميركية وروسية (وإسرائيلية) وتركية، يمكن أن تحيل طعمه الى مرارة حنظلية صافية!

في تكرار مقولة «الانتصار» شبهة عدم اقتناع صاحبه به! وشعوره بالحاجة الملحّة الى تثبيته في يقينه قبل رميه الكيدي في وجه الآخرين.. وهذا أمر يليق بالهواة والطغاة. القاصرين في الحالة الأولى عن رؤية الواقع العام على حقيقته والاكتفاء بدلاً من ذلك برؤاهم الخاصة الممتلئة والمشبّعة باليقينيات المقدسة.. و«المؤمنين» في الحالة الثانية أن بقاءهم كطغاة واستبداديين أهم من بقاء «دولهم». وأَولى من استقرار مرتكزاتها السيادية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. ويكفيهم في خلاصة الضنى والأمر بقاءهم في مواقعهم ولو على شاكلة غراب البين الناعق فوق المقابر.

في هذه المحنة البلاغية الضارية تكثيف لعمى الرؤى والرؤية. بحيث لا يريد صاحبها الإقرار بأمرَين مريرَين. الأول، أنّ البلاء السوري هو بلاء لـ«الأمة» المدّعاة من أولها الى آخرها، وبصفاء ماسّي تام ومُنجز. ولكل أقوامها ومِلَلها ونِحلِها وطوائفها ومذاهبها وقيمها! والثاني أنّه للمرة الأولى في التاريخ الحديث، تدّعي منظومة «تحريرية» «مقاومة»، أن اضافة الروس والأميركيين.. والأفغان والباكستانيين والشيشانيين وغيرهم، على الإسرائيليين في المنطقة، هو «انتصار» بيّن ومشفوع بألطاف ربّ هذه الدنيا!

وأسوأ النكبات هي تلك التي لا يعرف فيها الجلاّد العابر أنّه ضحية دائمة! ولا المنتصر الموهوم، أنّه مُنهزم مكتمل الأوصاف!