فضيلة الفاروق

غادر الفتى الأسمر بلاده الطيبة النائمة بين تلافيف القارة الأفريقية إلى بريطانيا لنهل مزيد من العلم من جامعاتها ولم يعلم أن ذلك السفر لن يكون سوى رحلة عبر الزمن، وأنه سيغادر الماضي بكل حمولته ولسوف يجد نفسه في المستقبل مثل قصص الخيال التي يضيع أبطالها من الصدمة حين يصفعهم التقدم العلمي والفكري لأهل تلك البلاد التي يحلون عليها. لم يعلم أيضاً أنه بتلك السفرة سيعود اسماً كبيراً إلى السودان، عبر مؤلفاته، وأن اسمه بين عشاق أدبه سيكون أشهر من أزهار القرنفل و النرجس، وأن رواية واحدة ستصنع له شهرة عالمية، وجمهوراً في كل بقاع الدنيا، ولن تنطفئ جذوة تلك الرواية التي روى فيها صدمته الثقافية والحضارية حتى بعد نصف قرن من نشرها.

الشاب السوداني ذو المخيلة الحالمة طار إلى بلاد الضباب مغادراً غبائر بلاده وشمسها الحارقة، دون أن ينسى حمل قريته كرمكول في حقيبته، ليخرجها في مساءات لندن الباردة عسى أن تنير غرفته، وتملأ غربته بالدفء في أوقات وحدته، سيتسامران على مدى تلك الليالي الطويلة حبراً على ورق، كما في طفولته وصباه، سيصغي للقرية وهي تروي له القصص العجيبة المألوفة لأهلها، ولن يفتأ أن يصبح كاتباً مشهوراً، و يُترجم لأكثر من ثلاثين لغة، فيقرأه العرب والعجم والمستعربون. ولن يكفّ القراء من كل العالم عن قراءته منذ أن بدأ يكتب إلى يومنا هذا. إذ حلّت اليوم الذكرى الواحدة والخمسين من صدور روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» وماتزال الرواية تحقق نسبة مبيعات ممتازة مقارنة مع روايات أخرى نالت من الشهرة و الترويج الإعلامي الكثير.

عاش الرجل ثمانين عاماً رأى فيها الكثير من أعاجيب الدنيا، ولكنه كلما عاد لقريته وجد الزمن راكداً، والناس رغم توالد أجيال جديدة لهم إلا أنهم يتناسخون في حياتهم البطيئة كأن لا شيء يتغير حولهم.

ذهب بعيداً، بعيداً جداً عن كرمكول، خبِر الهجرة إلى الشمال بكل أنواعها، ثم عاد لينام في بيته الأبدي بمقابر البكري بأم درمان، ومثل العصافير التي تختبئ لتموت. إختبأ في عشّه السوداني وأغمض عينيه فيما أسراب الطيور الأفريقية الشّابة تهرب عبر المتوسط بجنون غير مسبوق لتبلغ الضفة الأخرى.

لكأن الطيب صالح في روايته لم ير موسم هجرة قصير المدى، بل رأى بدايته، رأى رعيل طلاب العلم وهم يكتشفون حقائق جارحة عن واقعهم، ومجتمعاتهم، وثقافتهم. تلك كانت البداية، ثم رأى العودة المفعمة بالأحلام والطموح والحب، ثم رأى الخيبة،

وعبثية تلك الرحلة العلمية التي لن تؤتي ثمارها أبداً في أراضٍ أنهكها القحط الفكري.

دوّن ما يمكن تدوينه سارداً حكاية مصطفى سعيد التي صنع آلاف الأفارقة تتمة لها بحكاياتهم ومغامراتهم الخطيرة وهم يقطعون الصحاري في ظروف بائسة لبلوغ المتوسط، حيث يقذفون بأنفسهم دون أي أسف على ما تركوه خلفهم، حلمهم الأول و الأخير بلوغ الشمال الذي يضمن للإنسان كرامته.

نصف قرن عمر هذه الرواية التي صدقت في الوقت الذي كذب فيه عشرات السّاسة بشأن الوضع الأفريقي.

نصف قرن من الهجرة إلى الشمال، مع سؤال عالق ومخيف: «ماذا بعد هذه الهجرة المجنونة؟».