الحسين الزاوي

تعرف التوجهات الانفصالية في أوروبا تطورات متسارعة على مستوى خريطة القارة، وذلك بعد تراجع أحلام وطموحات الاستقرار والرخاء التي حملها مشروع الوحدة الأوروبية في منتصف القرن الماضي. وتعكس هذه التوجهات مقدار الاضطراب، الذي باتت تشهده الدول القومية الكبرى التي تأسست في معظمها منذ أكثر من قرنين،

على مستوى تمثل مواطنيها لعناصر هويتها الوطنية، ويبدو بالتالي أن القوميات الكبرى أضحت الآن أقل قدرة على احتواء عناصر الهويات الجزئية في سياق محيط دولي يغلب عليه التجاذب الحاد بين القيم الكونية الناجمة عن ثورة الاتصالات والمعلوماتية من جهة، وبين الخصوصيات العرقية واللغوية والدينية التي عادت إلى الواجهة لتتصدر المشهد السياسي ولتؤثر في استقرار المجموعات القومية الرئيسية في القارة من جهة أخرى. الأمر الذي يهدد الوحدة الوطنية لدول عريقة مثل بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، باستثناء ألمانيا التي استطاعت أن تحقق تجانساً لغوياً ما بين مقاطعاتها منذ بداية حلم الوحدة، الذي نظّر إليه الفيلسوف فيخته في خطاباته الموجهة إلى الأمة الألمانية، وقام بتجسيده بسمارك. 
وقد عادت رياح الانفصال العاتية لتهز المشهد السياسي في أوروبا بعد قيام برلمان مقاطعة كاتالونيا باعتماد قانون يسمح للإقليم بإجراء استفتاء الاستقلال عن الدولة المركزية في مدريد بداية من شهر أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وذلك قبل أن تصدر المحكمة الدستورية الإسبانية قراراً يقضي بتجميد هذا القانون المثير للجدل. ومن المنتظر أن تشهد الأسابيع المقبلة صراعاً قانونياً كبيراً ما بين مدريد والأغلبية البرلمانية في برشلونة التي تصرّ على إجراء الاستفتاء في الإقليم من جانب واحد رغم رفض المعارضة الكاتالونية التي تدعمها حكومة ماريانو راخوي للتدابير التي اتخذتها المجموعة الاستقلالية ذات الأغلبية في برلمان الإقليم.
ويذهب المراقبون إلى أن مخاطر تقسيم إسبانيا تظل قوية إلى حد يعيد، لا سيما وأن الدولة الإسبانية لم تستطع حسم معركتها العسكرية العنيفة مع منظمة إيتا الباسكية الانفصالية إلا خلال السنوات الأخيرة من العقد الماضي، وقد يؤدي من ثمة سيناريو استقلال إقليم كاتالونيا إلى استقلال مناطق أخرى من إسبانيا وفي مقدمها إقليم الباسك. 
ومن الواضح في أعين هؤلاء المراقبين أن هناك أسباباً كثيرة لانتشار ظاهرة النزعات الانفصالية في أوروبا وفي مقدمها العوامل الاقتصادية التي تجعل الكثير من المناطق الغنية ترفض تقاسم ثرواتها مع بقية مناطق الدول القومية الكبرى، ويصدق ذلك بشكل كبير على كاتالونيا في إسبانيا والفلاندر ذات الأغلبية الناطقة باللغة الفلامانية في بلجيكا، كما يصدق بالقدر نفسه على منطقة شمال إيطاليا التي تطالب فيها «رابطة الشمال» باستقلال الجزء الشمالي عن الجنوب الذي يعرف صعوبات اقتصادية مزمنة وانتشاراً تاريخياً لافتاً لبعض المجموعات الإجرامية.
ويمكننا القول إن ما يجري من تفاعلات سياسية في إسبانيا نتيجة للتوجهات الانفصالية يمكنه أن يؤثر بشكل كبير على باقي دول الجوار الإقليمي وفي مقدمها فرنسا، لا سيما وأن القوميات المطالبة بالانفصال في إسبانيا لها امتداداتها التاريخية والجغرافية في فرنسا سواء تعلق الأمر بإقليم الباسك أو بإقليم كاتالونيا الذي تمتد حدوده التاريخية إلى مدينة بربينيون الفرنسية التي ما زال سكانها الأصليون يتمسكون بثقافتهم وتراثهم الكاتالوني. وتعاني فرنسا أيضاً من التوجهات الانفصالية القوية لدى سكان جزيرة كورسيكا، التي قاد جناحها السياسي والعسكري بقيادة الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا، معارك ضارية مع سلطات باريس من أجل الحصول على الاستقلال. وتجدر الملاحظة في السياق نفسه، أن مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بات يمثل مخاطر جدية فيما يتعلق برغبة إسكتلندا في الاستقلال عن سلطة العرش البريطاني. ويتكرر هذا المشهد الانفصالي المتصاعد بشكل أكثر خطورة في معظم دول وسط وشرق أوروبا لا سيما في منطقة البلقان وفي جورجيا وأوكرانيا. 
وتكمن خطورة كل هذه التوجهات الانفصالية في ارتباطها بعناصر الهوية اللغوية واللسانية، التي ما زالت تؤكد على قوتها التمثيلية والتأثيرية قياساً بعناصر الهوية الأخرى كالعرق والدين، ويبدو أن اللغات القومية الكبرى قد فشلت في بسط سيادتها الكاملة على باقي اللغات سواء تعلق الأمر بالوضع في فرنسا أو إسبانيا أو بلجيكا. وبالتالي فإن الكثير من المراقبين يذهبون إلى التأكيد على أن العوامل الاقتصادية المؤثرة في التوجهات الانفصالية، تظل غير كافية من أجل تفسير صمود رغبة الانفصال والاستقلال لدى الكثير من المجموعات السكانية في أوروبا، التي ظلت تحتفظ بتراثها اللساني بالرغم من الهيمنة شبه المطلقة للغات القومية الكبرى على المستوى السياسي والإعلامي والاقتصادي. 
ونستطيع أن نستنتج بناءً على ما تقدم أن الانهيار المحتمل لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يعطي دعماً قوياً للتوجهات الانفصالية في القارة، فقد لعبت مؤسسات الاتحاد في بروكسل دوراً محورياً كبيراً في إقناع النخب الانفصالية القوية في كاتالونيا وفي إقليم الفلاندر في بلجيكا على سبيل المثال لا الحصر، في تعطيل مشاريع الانفصال من أجل الاستفادة من المزايا الكثيرة التي ما زال يقدمها الاتحاد الأوروبي لرجال الأعمال في مجمل المناطق ذات النزعة الانفصالية القوية. وبالتالي فإنه وبالرغم من اعتماد الاتحاد الأوروبي على اللغة الانجليزية كلغة أساسية في تعاملاته الرسمية إلى جانب اللغات القومية الكبرى لدوله الرئيسية من أجل تجاوز حالة التشرذم اللغوي، إلا أن المطالب المتعلقة بالهوية اللسانية في أوروبا ما زالت قوية، وقد يسهم خروج بريطانيا وتراجع تأثيرها اللغوي في تصعيد الموقف على مستوى الصراع اللساني داخل الدول الأوروبية الكبرى.

- See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/c29a5e15-5ae4-4d7c-9b9e-8910052b7747#sthash.Vh2koRjO.dpuf