صالح زياد 

الحديث عن الثقافة من حيث هي مؤثِّر في أوضاع التعليم، يقودنا بالضرورة إلى حمولتنا التقليدية من الثقافة، في غضِّها من قيمة العقل ومعاداة وسائل بنائه وتمحيص يقينياته

يختلف تقويم التعليم، أي تمييز مستوى القيمة فيه وحسابها، في الآراء المطروحة لدى عامة الناس في المجتمع السعودي، وما تستثيره من جدل لديهم بين حين وآخر: في ارتفاع معايير الجودة فيه أو انخفاضها، وشمولها جوانب العملية التعليمية أو اقتصارها على بعضها، ومن ثم في جودة مُخرجَاته وامتيازها، أو ضعفها ورداءتها. 
وهو اختلاف بسبب موقع الرؤية أو وجهتها في الحساب لتلك القيمة: 
فمن جهة، تتعدد جوانب حقل التعليم وتتصل ببعضها: سياسة تعليمية ومعلمين وطلابا وإدارة ومقررات وكتبا وبناء مدرسيا وإتاحة للمناشط غير الصفية... إلخ.
ومن جهة أخرى، يندرج التعليم ضمن البناء الاجتماعي الذي تتعدد تصوراته الثقافية وأوضاعه الاجتماعية والاقتصادية ومشكلاته وتتصارع، أو تتحد وتتشارك.
موقع الرؤية أو وجهتها في تقويم التعليم، يرتِّب أحكامها وتوصيفاتها للتعليم وفقا لما تريده من موقعها ذاك. وهي إرادة متحيِّزة بشكل أو بآخر لشَرطيّة هذا الموقع في تصوره ومقدار فهمه وطبيعته، وفي أيديولوجيته ورؤيته للعالم، وفي موقعه الاجتماعي وحسابات مصلحته الفردية والفئوية...
أن تلوم السياسة التعليمية والمناهج، وترتِّب ضعف التعليم ورداءة تأهيله الطلاب إلى المستقبل الذي يتطلب الاهتمام بالتقنية والعلوم الحديثة، هذا يعني من وجهة مناقضة أنك تغض من شأن الاهتمام بالدين وعلومه، وهو اهتمام أساسي في سياسة التعليم، أو لا تتيح للطلاب ملء الرغبة في اختيار ما يسهل عليهم أو ما يناسب ميولهم التي يقصد بها هنا الميول التقليدية.
وإذا ما انتقدت ضعف الطلاب وكسلهم وعدم امتلاك نسبة كبيرة منهم الدافع إلى الجدية والطموح والشغف بالعلم... فأنت تُبصر ضعف الطلاب من حيث هو سبب لا من حيث هو نتيجة؛ فالطلاب في الكيفية التي يوصفون بها هم نتاج تأهيل المعلمين وكفاءتهم، وهم مُخْرَج ما يسود المجتمع من ثقافة وأخلاقيات، وما ينتظمه من دوافع...
أما إذا توجهت باللوم إلى المعلمين، فوصفتهم بالتبطل والكسل، أو غمزت قناتهم بالافتقاد إلى المهنية، وعدم الرغبة في تطوير مهاراتهم والاستزادة من التأهيل، وانتفاء الإيمان لديهم بأهمية دورهم والشغف برسالتهم التعليمية، فأنت في كل ذلك تكيد لهم، أو تجهل معاناتهم، وتعمم الحكم عليهم، وترى ما يجب عليهم لا ما يحق لهم، وتُحمِّلهم المسؤولية بدلا من أن تراهم في موقع «الضحية» والمفعولية.
ويغذِّي هذا الجدل من يسبغ على قطاع التعليم المديح والإشادة، مذكِّرا بالمخصصات المالية الضخمة المرصودة للتعليم وتطويره ضمن ميزانية الدولة السنوية، ومستشهدا بإنجازات بعض الكفاءات التي حققت تقديرا في الخارج، وبتقدُّم جامعات سعودية بين حين وآخر في بعض مراتب التصنيف العالمية على الجامعات العربية... إلخ.
فما يراه أصحاب هذه الوجهة، ينقلب من وجهة مقابلة إلى مساءلة عن عجز الإنفاق المالي الضخم على التعليم في الارتقاء الفعلي بمستويات خريجيه، أو عن استحالته إلى وسيلة لتحسين الشكليات أو شراء انتماءات الباحثين الأجانب لرفع مستوى تصنيف الجامعات، وأن المواهب والامتيازات الفردية هي موضع ثناء على فرديتها ومواهبها.
ولن نعدم في هذا الجدل من ينحصر همُّه في نشر صورة لانهيار سقف أحد الفصول الدراسية، أو مقطع فيديو لتكسير الطلاب أثاث مدرستهم أو رمي كتبهم بعد الخلاص من الامتحان في ساحات المدرسة أو شارعها، أو تصوير جدران المدرسة المتسخة بالشتائم، وهذا غير تداول بعض الأخبار عن حادثة اعتداء على معلِّم، أو مضاربة بين الطلاب لأسباب تعود إلى سوء الأدب أو إلى النعرات الاجتماعية... الخ.
فكل ذلك يغذِّي الحديث عن التعليم، ويستثيره في شكل جدلي يتقابل فيه الرأي ونقيضه، وتتضاد التفسيرات والتأويلات وفقا لمواقع مختلفة في الرؤية وفي الجدل.
وإلى ذلك، يتخذ مظهر من مظاهر المحاكمة للتعليم والتقويم له موقعه من خارج اللحظة الزمنية أو من خارج المكان. وفي هذا الصدد يكثر الحديث عما كان عليه وضع التعليم في الأجيال السابقة، في اهتمامهم وفي إخلاص معلميهم على الرغم من تواضع الإمكانات وشح الموارد.
وليست صور أسئلة الامتحانات قبل أربعين أو خمسين عاما التي ينشرها بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي إلا رغبة في الدلالة على انحدار مستوى التعليم وتراجعه عما كان عليه.
ولا ينفصل عن ذلك، الحديث عن التعليم في المجتمعات الأخرى، لا سيما المتقدمة، الذي يكون مغزاه أو سياقه الكشف عما يعانيه التعليم لدينا من مشكلات أو الدلالة على ما يفصلنا عن غيرنا.
ولكن انتقاد التعليم بطريقة المقايسة على زمان ومكان خارجين عن لحظته وموقعه، طريقة -لدى وجهة معارضة لها- لا تبرأ من العواطف التي تجرِّد موضوع المقايسة وتبسِّطه لصالح استدلالها، متغاضية عن أن الاختلاف ليس في كل الأحوال بالتدني، وأنه اختلاف لا يخص التعليم وحده، ومن ثم لا يسمح باختصاصه باللوم والانتقاد، فشرط المقايسة مختل ابتداء.
ونستطيع أن نقرأ في هذا الجدل صراعا في القيم والأحكام والمواقع؛ فالتوصيفات التي ترينا وجهات الجدل المختلفة التعليم من خلالها، والأحكام التي تتَدافَع المسؤولية بشأنه لا تستقل بما تراه ولا تبتدئه وتنفرد به، بل 
تنخرط في علاقة نقض ومعارضة تجاه غيرها مثلما ينخرط غيرها في علاقة نقض لها.
والدلالة الكامنة في الجدل على هذا النحو تومئ إلى طبيعة الانسداد الذي يُجمِّد الحركة الاجتماعية؛ لأنه يحجزها عن رؤية كلِّية للمجتمع، تصبح بموجبها مشكلة تطوير التعليم وجها واحدا من وجوه المشكلات الاجتماعية التنموية المتعددة، لا يمكن حلها دون التفكير في ترابطها؛ لأن حلها هو حل لعقدة العقل الاجتماعي الذي يصنعها؛ أي للتصور والوعي الذي تقتضيه -تجاه أوضاعه الراهنة- الموضوعية بقدر ما تقتضيه الرغبة في الانعتاق المتجدد إلى المستقبل.
لا يبرأ وضعنا الاقتصادي من التسبب في فتور الهمة والتراخي الوظيفي والكسل، وهي الأعراض المعروفة لدى دارسي الاقتصاد السياسي بـ«المرض الهولندي» الذي ينسب تلك الأعراض في المجتمعات على سبيل التشبيه إلى الحالة التي أصابت الشعب الهولندي في النصف الأول من القرن العشرين، بعد اكتشاف النفط والغاز في بحر الشمال.
والتعليم جزء من قطاعات الحركة والجهد في المجتمع، التي تنعكس عليها أوضاع الكسل العام وافتقاد الدافعية للإنجاز والتميُّز المسبَّبَة عن تلك الحالة «المَرَضِيّة» فنحن دولة نفطية. والمشكلة -عندئذ- في تحول الأوضاع المادية إلى ثقافة مستحكمة؛ فحتى أنظمة التعليم لدينا ليست حفيّة بتمييز ذوي الكفاءة والنبوغ من المعلمين وأساتذة الجامعات والمبدعين، عن غيرهم، فكلهم سواء.
والحديث عن الثقافة من حيث هي مؤثِّر في أوضاع التعليم، يقودنا بالضرورة إلى حمولتنا التقليدية من الثقافة، في غضِّها من قيمة العقل ومعاداة وسائل بنائه وتمحيص يقينياته، وهي علوم المنطق الحديث والفلسفة، وفي تفضيل المهن التي تتحاشى العمل اليدوي وتحتقر «شنطة العدة» والانتماء إلى زمن الصناعة. وهذا هو سبب الإقبال على وظيفة المعلم والإداري والتنافس على الاتصاف الزائف بصفة المثقف، مع التحريف لمهمة هذه الوظائف إلى ما يكرس فيها الوعظية والعمل الرتيب والترفُّع والشكلانية... ونحوها.