عبدالحق عزوزي

تنظم بعد أيام في العاصمة الأردنية عمان ندوة تحالف عاصفة الفكر في نسخته الخامسة في موضوع ‏‭»‬التنمية ‬والتعليم ‬والإعلام ‬في ‬مواجهة ‬التطرّف»‬، ‬بتنظيم ‬من ‬منتدى ‬الفكر ‬العربي ‬وبمشاركة ‬مفكرين ‬ومراكز ‬أبحاث ‬وازنة. ‬

وبلداننا ‬العربية ‬في ‬حاجة ‬ماسة ‬إلى ‬مثل ‬هذه ‬الرياضة ‬الفكرية ‬التي ‬غالباً ‬ما ‬نجدها ‬في ‬بعض ‬من ‬الدول ‬الأنجلوساكسونية ‬حيث ‬تتحالف ‬العقول ‬الاستراتيجية ‬وتجلس ‬على ‬طاولة ‬واحدة ‬للحديث ‬والتشخيص ‬وصياغة ‬الحلول ‬لما ‬ينفع ‬شعوبها ‬وأوطانها. ‬كما ‬أن ‬العلمية ‬تكون ‬قاعدتها ‬الأساسية ‬في ‬البحث ‬عن ‬الحقيقة، ‬وتحليل ‬الماضي ‬والحاضر ‬واستشراف ‬المستقبل ‬بأدوات ‬واقعية ‬وقناعات ‬موضوعية. ‬وقد ‬جاد ‬وأجاد ‬الدكتور ‬جمال ‬سند ‬السويدي ‬عندما ‬كان ‬السباق ‬إلى ‬بلورة ‬هذه ‬الاجتماعات ‬الدائمة ‬بالتأصيل ‬لمناخ ‬علمي ‬وفكري ‬جاد ‬نشتغل ‬فيه، ‬لتتم ‬صياغة ‬مقترحات ‬وتوصيات ‬ذات ‬بعد ‬استراتيجي ‬تسعى ‬كآلية ‬للتخطيط ‬إلى ‬صياغة ‬براديغمات ‬وأطر ‬فكرية ‬لتحديد ‬طبيعة ‬المشاكل ‬والتحديات ‬التي ‬تواجهنا، ‬وإلى ‬توجيه ‬قرارات ‬القادة ‬السياسيين ‬ووضع ‬حلول ‬وبدائل ‬مستقبلية.

وهذا الاجتماع يحمل اسم «العاصفة» وهو إيذان بضرورة تبني عاصفة استراتيجية، هي عاصفة فكرية بالدرجة الأولى، تستلزم منا نحن –أهل الرأي والمعرفة- تحالفاً فكرياً لبلورة استراتيجية تداوي مرض العقل والواقع العربيين بوصفات استشفائية دقيقة لإخراج الأمة من أزماتها وللإجابة عن معضلات البناء التنموي والنهضوي والوحدوي في إطار عقلانية تعم الشكل والمضمون، والهياكل السياسية ومؤسساتها وعقلية وسلوك الجماعات والأفراد لنتموقع في الحاضر والمستقبل، وهذا كفيل بتبصير المجتمعات وصناع القرار العربي بضرورة تبني حلول عاجلة، وإلا فقد تتفاقم المشكلات أكثر إذا لم تزل المسببات في وقتها.

ودائماً ما أنادي في كتاباتي وعلى صفحات جريدة «الاتحاد» الغراء بضرورة التجديد والتحديث، فنحن في حاجة إلى رؤية جديدة ينظر إليها من زاوية عقلانية التنوير، والعقلانية الرشيدة والعقلانية النقدية. فالأزمة شاملة تتعدى مفاهيم الأصالة والمعاصرة، والقديم والحديث، وزوايا المنهجية والإبستمولوجيا والإيديولوجيا. إنها عطالة العقل العربي الذي لا ينفع معه طبيب الذات الفردية أو طبيب الذات الجماعية، وإنما طبيب كلي يصف دواء شاملاً بعد تعزيزه بعلاج تشخيصي برهاني يتجه إلى عوامل السياسة والثقافة والوعي والإدراك المجتمعي، والتراث والحضارة والمؤسسات، في إطار تداوٍ بما كان يسميه قدماء الأطباء «بالسكنجبين» وهو مركب من الحلو والحامض أو من العسل.. الخ، أو خليط من الإيديولوجية والمعرفة، من التراث والحداثة، من الماضي والمستقبل.

والعاصفة الفكرية التي سيتطرق إليها ملتقى الأردن ستتناول جوانب التربية والتعليم والتنمية المستدامة لمواجهة ومحاربة التطرف وإزالته من جذوره. فالإرهابيون لا يردون بالعلم، ولكن بالجهالة، ولا يجيبون بالمنطق العام بل بالشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان. وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، ولسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقنا فهو كافر مرتد. وكل من درس أو قرأ في الطب النفسي يعرف أن من خصائص مرض الذهان أن يلجأ المصاب به إلى الإفراط في التوكيد، ولكنه يجنح في ذلك إلى منطقه الخاص لا إلى المنطق العام، ويسرف في التصورات الشخصية غير الواقعية، ويعجز عن مطابقة فهمه وتصوره وتعبيره للواقع، ومن ثم فهو يعيش في حالة من الفصام بينه وبين الحياة السوية السليمة الواقعية.

وإن تدريسي لتاريخ العلاقات الدولية في الجامعات علمني شيئاً مهماً: أن الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، بل لابد من قطع أصل الداء وإزالته إزالة نهائية والقيام بعملية جراحية مفصلية فيها النجاح للبلدان ولمستقبل العباد والأجيال... والحلول السطحية نتائجها محدودة ومسكنة لوقت قصير.

وإذا تأكد للجميع أن الإرهاب المجالي اليوم هو بالضرورة نتيجة لإرهاب لا مادي أو لا مجالي مبني على الجهل وعلى التضليل الإيديولوجي وعلى الشعارات السياسية الدينية الخاطئة وعلى الصيغ الهلامية التي لا تناقش بالعقل بل تتوالى وتنتشر بنهج الإعلان ولا تعترف بالحدود، أفلم يئن الأوان للاستثمار الأمثل في التربية والتعليم والإيديولوجيا لنغير الواقع من لحظة الخروج من صفحات التاريخ إلى لحظة النهوض بكل العقول وإقامة قواعد التنمية والأمن والاستقرار.