محمد كركوتي

"عندما تكون هناك أشياء لا تسير كما ينبغي، بإمكان لندن تحملها"
جيرمي هانت، وزير الصحة البريطاني


في المربع المالي بلندن هذه الأيام، سعادة غامرة. وهذا المربع (والمدينة كلها معه)، يتلقف أي إشارة إيجابية حتى لو دخلت في نفق التمنيات، بل الأحلام. وكما أن الشمس ليست من الزائرين المقيمين في لندن، وهي أقرب إلى "مسافر ترانزيت"، كذلك الأخبار التي تحمل بعضا من فرح، أو لفتة انفراج، أو حتى وعدا غير مشكوك فيه. دعك من أقوال على شاكلة "برؤية لندن، كأنك رأيت أكثر ما يعرضه العالم"، أو "أنك تعيش في لندن مثل السائح"، أو "لندن أكثر الأماكن سحرا في العالم"، أو "أحب وضعيتي كأجنبي في لندن، هناك أعداد كبيرة من الأجانب فيها". كل هذه الأقوال وغيرها بالآلاف لا تغير من الوضع الراهن شيئا، وبالتأكيد لن تغير في تشكل الوضع الجديد في المرحلة المقبلة.
أظهر آخر استطلاع أجري في العاصمة البريطانية، أن هذه الأخيرة لا تزال المركز المالي الأقوى جاذبية في العالم متقدمة على نيويورك حتى بفارق كبير. وطبعا هذه النتيجة، تأتي في ظل المفاوضات الجارية حاليا بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لاستكمال عملية الخروج البريطاني من هذا الاتحاد المعروفة باسم "بريكست". لا تريد لندن أكثر من هذه النتيجة الآن، لأنها تعرف أنها لن تحصل على أفضل منها، بصرف النظر عن عدم محورية الاستطلاعات (بشكل عام) وأهميتها الفعلية على أرض الواقع. وكان طبيعيا أن ابتعدت مدينة نيويورك عن العاصمة البريطانية في هذا الاستطلاع، من زاوية الانعزالية الاقتصادية التي ارتضتها وتعمل لتعميقها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. فهذا الأخير بات قائدا لانسحابات بلاده من تجمعات دولية راسخة في التاريخ، على مختلف الأصعدة.
خبر وحيد "باسم" ظهر في لندن في زحمة الأخبار "العابسة" منذ أكثر من عام، ما دفع أنصار "بريكست" إلى تحويله لشعارات مُقطَعة ومتقطِعة. و"التقطيع" للاستفادة القصوى منه من فرط قناعتهم بأن هذا أفضل ما سيظهر على الساحة من الآن وحتى موعد انتهاء مفاوضات الخروج، لاسيما أنهم يواجهون حقائق تظهر بصورة مستمرة الآثار السلبية الناجمة عن الانسحاب. ومن هنا كان ضروريا (مثلا) أن يحذر لوبي مالي بريطاني من الاكتفاء بنتيجة الاستطلاع، وهذا اللوبي أسرع بدعوة الحكومة لإيضاح تدابيرها الانتقالية بعد نيسان (أبريل) 2019 الوقت الرسمي للخروج البريطاني من الاتحاد. الكل يعرف أن لندن مركز مالي قوي وراسخ وحقيقي، وأن دولا تسيطر على اقتصادات أكبر من الاقتصاد البريطاني لم تستطع أن تقتنص لعواصمها مكانة توازي مكانة العاصمة البريطانية، في هذا المجال شديد الحيوية والتأثير.
لكن الصورة الحقيقية تختلف عن نتائج الاستطلاع المشار إليه، لماذا؟ لأن مؤسسات مالية ومصارف كبرى أعلنت مبكرا تفعيل خطط طوارئ من بينها الانتقال من لندن إلى مدن أوروبية أخرى، أو فتح مراكز رئيسة فيها. ويزداد عدد هذه المؤسسات مع عدم تأكدها حقا من التدابير التي تتخذها الحكومة البريطانية لما بعد إتمام الانسحاب. ناهيك عن الخلافات داخل الحكومة نفسها بشأن شكل ووتيرة ومعطيات عملية المفاوضات، وصورة العلاقة المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي، وطبيعة علاقات بريطانيا مع بقية بلدان العالم، خصوصا من الناحية الاقتصادية. يأتي هذا كله، في ظل مفاوضات تتسم بالحدة بين الطرفين، ووسط فوضى فاضحة في صنع القرار البريطاني بهذا الشأن، ما دفع مسؤولين أوروبيين للحديث علنا عن ضرورة أن تكون بريطانيا أكثر "حرفية" في هذه المفاوضات.
لندن لا تزال المركز المالي الأول على مستوى العالم دون منازع. لكن كيف سيكون وضعها مع إعلان أغلب المصارف البريطانية والأمريكية واليابانية الكبرى، أنها ستفتح وحدات لها في فرانكفورت الألمانية ودبلن الإيرلندية؟ بعض منها سينقل مراكزه الرئيسة، إلى جانب طبعا عودة كل الفروع الأساسية للمصارف الأوروبية إلى بلادها. دون أن نذكر باستفاضة مصير مقاصة اليورو التي تتمتع بها العاصمة البريطانية منذ إطلاق هذه العملة. والسؤال الآن، هل ستبقى لندن المركز المالي الأول بعد ذلك؟ لا شك أن هذه المدينة بنت نظاما ماليا فائق القدرة على التعاطي المالي العالمي. لكن غيرها من المدن الكبرى بنت أيضا أنظمة مالية قوية ذات سمعة عالية الجودة، ويمكنها من خلال التحديث والتوسع أكثر أن تستوعب كل "الهاربين" من العاصمة البريطانية.
لا يمكن النظر إلى لندن كأكبر مركز مالي عالمي على أنه حقيقة حتمية مستدامة. الأوضاع تتغير وتتبدل بصورة "درامية". وبريطانيا كلها تعيش اهتزازا اقتصاديا اجتماعيا، بل وطنيا أيضا، لم تمر به منذ الحرب العالمية الثانية. وهذا الاهتزاز يعود بالطبع إلى قرار "بريكست" أولا، وإلى عدم وضوح الرؤية ما بعده ثانيا. يضاف إلى ذلك الحالة التفاوضية المهزوزة الراهنة، والصدام السري أحيانا والمعلن أحيانا أخرى بين السياسيين داخل الحزب الواحد. بريطانيا تتشكل حاليا بصيغة مختلفة، وبالتأكيد تتشكل معها لندن المدينة التي تحدث التاريخ عنها أكثر من غيرها من كل المدن.