وسام سعادة

نظام يندفع، من خلال الإفراط في القمع الدموي لانتفاضة شعبية كانت تزداد اتساعاً، لجرّ البلاد الى حرب أهلية، مطعّمة بتشكيلة من التدخلات الخارجية، ثم يعود بعد سنوات من شلالات الدم، وتشريد أكثر من ثلث السكان، وتدمير مدن بأسرها، بل يعود من قبل توقف هذه الشلالات، أو العودة الملموسة لجزء من اللاجئين، وفي وقت لا يزال فيه البلد خاضعاً لعشرات الانواع من السيطرات المختلفة، يعود، و»بكل عين وقحة»، إلى إغراء وشكر هذا، وتمنين و»حرقصة» ذاك، بأنه سيقتطع لهم، او لن يقتطع، دعوة لحضور عرس فيلم الرعب هذا، وبأنه سيعطي لهم المجال، أو لا مجال، لإعادة إعمار سوريا!


هذا وتتواصل الثرثرة في هذا الموضوع على قدم وساق. من دون أي حياء. نظام يتشدّق بالآفاق الاستثمارية «الالدورادية» لبلاده حين ستبدأ المناقصات والتلزيمات لإعادة إعمارها، كما لو كان يتحدث عن إنجاز حضاري حققه، النظام نفسه الذي بنى سرديته في زمن حافظ الاسد على أساس أنه «باني سوريا الحديث»، هو الآن يتعامل معها كما لو انها قطع لعبة «ليغو»، ويقدّم نفسه بكل زهو، بأنه باني سوريا ثم هادمها ثم موزّع صكوك إعادة بنائها من جديد.

لكن حال إعادة الإعمار مثلها مثل حال عودة اللاجئين، غير ممكنة في ظل هذا النظام، بل لا يمكن ان يتحملها، اي ان يقبل بها جدياً، النظام نفسه. فإذا كان قادة مجرمي حرب، من هذا النظام، لا يتورعون عن المصارحة، بأنهم سيقفون حجر عثرة دون عودة الملايين الى وطنهم، فليس من الواقعي الافتراض بأن هذا النظام يمكنه حتى ان يسعى في سبيل إعادة إعمار، يعرف تماماً انها مستحيلة بإيران وحدها، بل مستحيلة من دون العرب وتركيا والغرب، وأنها حتى لو حظيت بمشاركة كل العالم في نهاية المطاف، فإنها ستكبّد سوريا ثمناً، لان البلاد لا تُعيد إعمار ذاتها من دون ثمن، هذا اذا كان فعلاً آل الاسد قد عمّروا سوريا قبل هدمها كما كانوا يرددون، وهو ما لا يصمد امام اي مسح جدي للمناطق الشاسعة التي ظلت محرومة من كل تنمية.

إعادة إعمار سوريا تفترض في الحد الادنى وقف شلال الدم، وتفكيك الاجهزة وميليشيات التشبيح، التي من شأنها الاطاحة بأي حل سياسي فوراً. لا إعادة إعمار، ولو بالحد الادنى، دون تسوية سياسية، ودون بداية عودة اللاجئين، ودون انسحاب الميليشيات المذهبية المتدخلة في سوريا من بلاد الجوار، والنظام السوري الذي في غير وارد تحمّل اي من هذه المسائل في غير وارد تحمّل اي من المداخل لإعادة الإعمار، لانه ما زال يمعن في الهدم، بلا كلل، ولم يفرغ بعد منه.

لبنانياً، يحضر هذا الموضوع على المائدة، بواسطة انصار النظام. هم ايضاً يسوّقون له على افتراضه فرصة نفعية سانحة ينبغي عدم تفويتها بسبب المواقف العاطفية لأخصام النظام. لبنانياً، هذا جزء من حال «الركود الصاخب» الذي نعيش فيه. فمنذ متى يهمكم اقتناص الآفاق الاستثمارية بدلاً من «الحرب الشعبية طويلة الامد»؟ منذ متى خلعتم بزة التكليف الشرعي لصالح هيئة رجال الاعمال؟ ولماذا تتعاملون مع سوريا كمستعمرة مليئة بحوافز إعادة الإعمار، ستتكرم بها على انصار نظامها، وتحرم منها اخصامه؟!

فاقد الشيء لا يعطيه. إعادة الإعمار، بدلاً من أن تكون حفلة يوزّع النظام الدعوات اليها، ويحرم منها من يحرم، هي استحقاق يطرح بحد ذاته، عدم قابلية هكذا نظام، تحول الى نظام احتضار دموي مزمن، حتى الى اعادة ممارسة الاستبداد «سلماً»، كما كان عليه الحال سابقاً. سوريا ليست قطع ليغو، يركّبها آل الاسد ثم يفككونها، ثم يركّبونها مجدداً.

هم يتصرفون، كما لو كانوا من بعد الهدم، في جيبهم «مشروع ماريشال» (نسبة للمشروع الاميركي لدعم إعادة إعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية). لكن، حدّ أدنى من التطلع لمشروع ماريشال، بالنسبة الى بلد كسوريا، يُناقض كل منطق الممانعة. فهل يعوّلون على نموذج إعادة إعمار روسيا لغروزني من بعد هدمها؟ لكن حجم الدمار في سوريا أضعاف مضاعفة لما حل بغروزني. حين اعاد الروس اعمار الاخيرة من بعد هدمهم لها، لم يوزعوا صكوك الاعمار للقاصي والداني. هذه الطفرة الممانعاتية في توزيع هذه الصكوك توحي على العكس من هذا، بأنه، حتى بالنسبة إلى داعمي النظام العسكريين، لا شهية لديهم لإعادة إعمار سوريا.