عبدالله بشارة

 أعرف حياة الأمم المتحدة وإغراءاتها الدبلوماسية، وإغراءاتها السياسية، وأعرف أن هناك ملفات منذ ولادتها تقبع في أدراجها، هناك القديم في فلسطين وكشمير وكوريا، وهناك الجديد مثل قبرص والصحراء الغربية، فالمنظمة ليست بحاجة إلى المزيد من ملفات التعقيد، خاصة أن الأمم المتحدة تتعامل الآن مع قضايا لم يعرفها المؤسسون، مثل ندرة المياه والتصحر وقلة الغذاء وتلوث الفضاء، وأنواع من تراكمات بيئية ومجاعات وأزمات عرقية وزحزحة الأقليات.


هذه الأمم المتحدة نسميها الآن دار العناية المركزة للأمراض المزمنة، القديم والجديد منها، وهي غرفة إنعاش للباحث عن أمل، ويسلم من يبتعد عنها، فمن يدخل هذه الدار من الصعب أن يخرج منها، فعلى جدول أعمالها، شكاوى منذ عام 1947.
كنت أتعجب من بقاء شكوى لبنان على الجمهورية العربية المتحدة، والكويت على العراق، والسودان على مصر، كلها مازالت على ملفات الأمم المتحدة.
لكن هذه الصورة الباهتة، لا توقف الغاضبين، ولا تؤخر المحبطين من الفضفضة داخل القاعات ليس بهدوء، وإنما بمفردات الغاضب.
كنت أتابع خطاب الشيخ تميم، الذي عبّر عن آلامه من الموقف الذي تعيشه قطر، وحدد شيئاً مفيداً وهو نداء المفاوضات، وأنا واثق بأن الآخرين من الأطراف في هذه الحالة المؤسفة سيقولون ما يريدون من منصة الأمم المتحدة، وإذا توقفت المشكلة عند هذا الحد فعلينا أن نحمد الله، لكن خوفي أن تذهب كل هذه الإحباطات وهذه التذمرات إلى اللجان المختلفة في القاعات المتجاورة في مبنى الأمم المتحدة، فيتحدثون في اللجنة السادسة عن قانونية المشكلة، وفي اللجنة الثانية عن اقتصادات المشكلة، وفي الثالثة عن إنسانية المشكلة، وفي أخرى عن تسليح المشكلة، وتسيطر هذه الأطراف الخليجية على ملفات اللجان، وإذا لم تتوافر التعليمات بالابتعاد عن إغراءات المداخلات، فسيزداد التعقيد ويبتعد الأمل في الحل.
منصات الأمم المتحدة مغرية للكلام المفتوح، الكل يريد أن يزايد، ومن يدعي الفضيلة، ومن يتلوى من آلام الظلم، ومن يغضب ويهدد، هذه قاعات الأمم المتحدة تتوقف، عندما يتدخل العقل ويخطف هذه الخلافات لينقلها إلى جوهر ميثاق الأمم المتحدة، وهو حل الخلافات بالوسائل السلمية، ففي العلاقات بين الدول لا يوجد ملائكة منزهون من اللوم، ولا مكان للكمال ولا للغاضب المتمرد، والأمم المتحدة فضاء للأخذ والرد، للعطاء والأخذ، للتعبئة السياسية أكثر من حل المشاكل.
فهناك كثيرون ومن داخل الأمم المتحدة عارفون بالحقائق، فلا يوجد احتكار للمعرفة بالتفاصيل، وفي الأمم المتحدة هناك قاعدة تقول إن من يأتي إليها عليه أن يقبل بأن الفضاء العالمي لا يكتم الأسرار، وأن المستعين بها عليه أن يلتزم بقواعدها، وأهم هذه القواعد تقبل مبدأ التنازل، فلا حلول لطرف واحد، فهي مفاوضات هدفها الوصول إلى صيغة يقبلها الآخرون، فيها كسب وخسارة، ومن لا يقبل هذا المبدأ عليه أن يقرأ مسببات فشل القضايا العالقة، وكلها بسبب طرف ما يريد الحق كله ولا يرى أي حق لدى الآخر.
هناك شيء اسمه الواقعية المتسيدة Real Politik، وهي مفتاح المفاوضات الناجحة، فيها حلول وسط، وقد تكون عالية التكلفة.
أبلغ دروس الذهاب إلى الأمم المتحدة هي أن يعرف الشاكي والمتأذي أن أنصار الحق قليلون، فهي ليست محكمة إرث وجنايات، هي موقع تجمع عالمي تتواجد فيه الأسرة العالمية لتجاوز الأزمات، وصفاتها العلاجية القبول بما يتوافر وليس بما تستحق، ولعلنا نستوعب دروس شعب فلسطين، ما زال من دون دولة رغم أنه يستحق أكثر، وأنا واثق أن المسؤولين الخليجيين ستكون لديهم نظرة قادمة متأثرة باطلالاتهم على النوافذ الواسعة، التي تقدمها الأمم المتحدة، لمن يريد التعرف على واقع العالم، فلا تبادلية الاتهامات تفيد، ولا الإسفاف الإعلامي يضيف إلى التوصل إلى النهاية المقبولة، تدويل الاختلافات وإدخالها ممرات الأمم المتحدة سيأتي بالحل الخارجي بوصفاته الدولية، التي لن تكون خليجية خالصة، وإنما تشكيلة تدخل فيها مرئيات من زوايا الإرهاب والراديكالية الإقليمية، ومصالح الدول الكبرى، بما فيها الشفافيات والانفراجات الاجتماعية، بالاضافة إلى اعتبارات أخرى، ربما لا تأتي على بال المسؤولين الخليجيين، لهذا فإن التساهل في تأخير التجاوب مع مبادرات سمو الأمير لن يكون في مصلحة الصيغة النهائية للإشكال القائم.
الأمم المتحدة حياة ديناميكية تأخذك إلى منحى بعيد عما تريده، ولعلك تخرج بشيء من الارتياح المقبول في التنفيس، لكن الحل المقبول يظل في الركن الخليجي.

 

عبدالله بشارة