قد تبدو موجة عابرة، أو حتى عدوى، وهي ليست كذلك. أن تكون كتالونيا الإسبانية وكردستان العراق في الواجهة، وفي وقت واحد، وباستفتاءين على الاستقلال في موعدَين متقاربَين، هذا يشير إلى أجندة قومية كامنة وعميقة، لكنها معروفة. تتوزّع الأسباب تبريراً لهذه النزعات بين الاقتصاد والسياسة، 

وهما مترابطان. الاقتصاد أولاً، إذ يربط كثيرون بين تصاعد مشاريع الانفصال في أوروبا وانعكاسات الأزمة المالية عام 2008، فالأقاليم الراغبة في الانفصال والاستقلال إمّا أن سكانها يشكون من توزيع سيء للثروة الوطنية يعود عليهم بالغبن والنقص في التنمية، أو أنهم يشكون من أنهم لا يتمتّعون برفاهية تتناسب مع مساهمتهم العالية في اقتصاد البلاد. في الحالتين يأتي الاعتبار السياسي القومي ليضفي المطلبية الملائمة، مستنداً إلى تجانس إثني أو عرقي، أو إلى رواسب تاريخية إذ ينبغي التذكير بأن تجميع القطع لتوحيد البلدان الأوروبية الكبيرة، ومنها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، لم يتمّ دائماً بالتراضي بل احتاج أحياناً للحزم والقوة، كما الباحثون في أوروبا إلى محاولات التمايز وطموحات الانفصال لم تخمد رغم القوة التي اكتسبتها الدولة الموحّدة.

في استعراض للخريطة يتبيّن أن الظاهرة الانفصالية موجودة في عشرات البلدان، إلا أن الانتقال إلى تفعيلها بدا متاحاً في المرحلة الراهنة في حالتين، إما في دول منظمة (كتالونيا، اسكتلندا، شمال إيطاليا..) تسمح قوانينها بطرح مثل هذا الخيار بمعزل عن إمكان نجاحه، أو في دول تعاني الفوضى والتفكّك، وفقاً للتوقعات بالنسبة للعراق وسوريا فضلاً عن ليبيا واليمن. وتختلف قضية كردستان في كون الأكراد حاولوا باستمرار إنشاء دولتهم، لكنهم خرجوا وحدهم خاسرين من توزيع الدول الكبرى تركةَ الدولة العثمانية، غداة الحرب العالمية الأولى، بين أقوام الشرق الأدنى، وكان أن تفرّقوا بين دول أربع ويجدون اليوم أن الظروف الدولية وانهيار الدولة في العراق وسوريا فرصة تاريخية لإحياء حلم دولتهم وتبدو لهم متاحة بدءاً بكردستان العراق مع احتمال التواصل جغرافياً مع أكراد شمال شرقي سوريا وجنوب شرقي تركيا وشمال غربي إيران. لم تكن أحوال الأكراد متشابهة في كلٍّ من هذه المواقع، لكنها كانت صراعية ومضطربة عموماً، وبقدر عنف القمع والاضطهاد زادت العصبية القومية للأكراد.

قبل ثلاثة أعوام أخفق استفتاء أسكتلندا في وضع استقلالها على السكّة، لكن تصويتها بعد عام مع البقاء في الاتحاد الأوروبي خلافاً للتصويت في إنجلترا أعاد المسألة إلى جدول أعمالها. تعتبر كتالونيا، كما أسكتلندا، وبأرقام واضحة، أن ما تضخّانه في الاقتصادَين الإسباني والبريطاني لا يعود عليهما بالبحبوحة التي يتصورها سكانهما. لعل أهم الأسباب التي رجّحت في سبتمبر 2014 ميل المستفتين الأسكتلنديين إلى البقاء في بريطانيا أن الحكومة المركزية في لندن قامت بدور حيوي في إظهار الخسائر المحتملة للانفصال، وهو ما لم تفعله حكومة مدريد أو حاولت ولم تنجح. لذلك بنى الكتالونيون قضيتهم على معطيات اقتصاد الإقليم الذي يملك مقوّمات مالية وصناعية وسياحية تمكّنه من توفير خُمس الناتج المحلي، لكنهم بنوها أيضاً على توقّعات غير واقعية لتعامل الاتحاد الأوروبي مع استقلالهم.

هنا يختلف أيضاً إقليم كردستان العراق بأنه مثقل بالديون، واقتصاده ضعيف وموارده محدودة. لكنه قد يلتقي مع كتالونيا وحتى مع أسكتلندا في أمور أربعة على الأقل. أولاً، أن ما حصّلته من مقوّمات كان بجهدها، لكن خصوصاً لوجودها في دولة اتحادية أو مركزية، ولا شك أن الانفصال سيبدّل المعادلات ما لم يتمّ بالتوافق مع الدولة وبمواثيق دقيقة للتعاون، وإلا فإن سلبية الدولة تجاه الكيان الناشئ قد تأتي بنتائج عكسية. ثانياً، أنها لا تكترث لتداعيات الانفصال وتعتبر أنه يدعّم استقرارها الاقتصادي واستقلالها السياسي بمعزل عن جوارها المباشر أو القريب. ثالثاً، أنها تعتقد خطأً أنه بالإمكان تحقيق أحلام تاريخية دون أن تأخذ باعتبارها المتغيّرات المستجدة على أحوال الدول والشعوب. ورابعاً، أن تجاهلها للتصدّعات التي قد يحدثها الانفصال من شأنه أن يدفع الدول المتضرّرة إلى إجراءات استثنائية، فما لوّح به رئيس الوزراء الإسباني لمنع استفتاء كتالونيا لا يختلف عملياً عما هدّد به نظيره العراقي إزاء الاستفتاء الكردي، بل إن حال كردستان أكثر خطورة إذ تبدو تركيا وإيران والعراق مصمّمة كلها على مواجهة هذا الانفصال بأي وسيلة، أسوأها الحرب وأبسطها إغلاق الحدود لعزل الإقليم.