يوسف الديني

 الاحتفال السابع والثمانون باليوم الوطني للسعودية جاء مغايراً هذه المرة، فهو لم يكن اعتيادياً أو عابراً؛ بل نقطة تحول في التاريخ الحديث للملكية التي قفزت على كل التحديات، وأبانت عن قدرتها المتفردة في دعم مسيرة الاستقرار في المنطقة، عبر سياسة حزم ورفاه محفوفة بتماسك داخلي ما زال عصيّاً على تحليل كثير من الشخصيات التي فشلت في قراءة سر هذا التلاحم بين رأس الهرم السياسي ومكونات الشعب على تنوعها، والتي خرجت في هذا الاحتفال إلى الضوء، معلنة عن تنوع وإقبال على الحياة، كان الاحتفال رمزيته البسيطة في بعدها البصري، إلا أن ما وراء ذلك ما يستحق أن يقال مجدداً، حيث التحولات لا يمكن أن تقرأ في نتائجها المباشرة دون سياقها الطويل والمعقد.

في السعودية الجديدة تم طي صفحة مهمة من الوصاية التي دشنها الفكر المتطرف، منذ ترسخ مفهوم الدولة ومؤسساتها، عبر انحيازه لمربع المعارضة لمسيرة التنمية والتطور، بشعارات آيديولوجية ذات صبغة دينية متشددة، واليوم يقطف السعوديون ثمرة تحولات ورضات كلفتهم الكثير، إلا أن المآلات ذات الكُلفات الثمينة عادة ما تثمر رغبة ملحة في القطيعة مع مرحلة صعود الإسلام السياسي في المنطقة، وليس في الخليج أو السعودية، وتحوله إلى مشروع «دولة داخل الدولة».


باختصار، فإن قصة آيديولوجية الإسلام السياسي بدأت كظاهرة سياسية حديثة مع صعود الجماعات الإسلامية، بعد فشل الخطاب النهضوي الذي جاء كرد فعل للاستعمار؛ لكنه لم يستطع أن يتحول إلى خطاب «الشارع»، ومن ثم تم اختطاف المشهد من خطاب «الإسلام التقليدي» الذي كانت تعبر عنه المدارس التاريخية الكبرى، أنصار المذاهب المتبوعة والتيارات السلفية والتصوف، وكل مكونات حزمة التنوع الديني التي وإن كانت تتصارع حول تمثيلها الديني؛ لكنها كانت لا تهدد السلم الاجتماعي ولم تكن منفصلة عن السلطة.


تعثر «الإسلام السياسي» عدة مرات؛ لكنه لم يسقط سقطته الأخيرة، كان أول تعثره في أحداث العنف التي أسسها «الإخوان»، ومن ثم التيار القطبي داخل الجماعة، فالجماعات المصرية الجهادية التي خرجت من عباءة «الإخوان» التي تصدرت المشهد باستهداف السياح واغتيال السادات، ثم عادت لوضعها الطبيعي، بعد ذلك انفصل الإسلام السياسي عبر تمثيله للمعارضة السياسية في البلدان ذات الطابع التعددي التي تسمح بتكوين أحزاب صريحة أو مستترة في العمل السياسي؛ لكنها ظلت تشكل المعارضة الصامتة في دول الخليج، حتى استطاعت الافتراق عن جسد «الإسلام التقليدي» بمؤسساته وتياراته الواسعة، من خلال أزمة الخليج وما تلاها من أحداث، حتى أحداث 11 من سبتمبر (أيلول) الذي كان سقوطاً مدوياً لفكرة «التغيير المسلح» الموجه للغرب؛ لكنه ارتد عبر موجات عنيفة للداخل الإسلامي، حتى في دولة لم تشهد ذلك من قبل كالسعودية، إلا أن سقوط التغيير المسلح أنعش فكرة التغيير السياسي وتمثيل المعارضة، بعد أن ترنح الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة مما فعله أبناء الفوضى من «تنظيم القاعدة»، ليحاول بعدها احتواء «الإسلام السياسي»، باعتباره بديلاً معتدلاً يمكن أن يحجم مقدار العنف الذي خلفته «القاعدة» عبر تقليم أظافره وجعله رأس الحربة في السلطة، دون أي تفكير حول ارتدادات ذلك على الفوضى السياسية التي يمكن أن يورثها، في ظل فشله في إدارة الدولة التي وصل إليها عبر صناديق الاقتراع؛ لكنه تعامل مع وصوله كما يفعل السلاطين في دولة الخلافة، محمولاً على قاعدة حزبية وكوادر تعاملت معه بشكل تقديسي، وهنا كان من المتوقع أن يؤدي الفشل إلى العودة إلى المربع الأول؛ حيث العنف والفوضى واستدعاء كل المناصرين في المنطقة، من الأتباع الذين لا يتصورون أنفسهم خارج حلم «دولة الإخوان» التي كانت أقرب إليهم من شراك نعالهم كما يقال، لكن بعد أن دفعوا أثماناً غالية جداً، وهي انكشاف خطابهم السياسي الضيق، وقدرة الجماهير العريضة من غير المسيسين في العالم العربي والإسلامي على التفريق بين الشعارات الدينية والعمل السياسي على الأرض، وكان هذا إيذاناً بالسقوط الأخير لفكرة «الإسلام السياسي»، وهو سقوط كما تقول لنا كل المؤشرات سيكون كبيراً، وأخيراً في حال استمرار المكابرة واللعب على نغمة عودة الفوضى، وهذا التزييف للواقع، بعد أن عشنا ردحاً من الزمن نعيش تزييف «التاريخ».
روح الشباب في الخليج هي المحرّك الأول للمرحلة المقبلة، وبالتالي يجب استثمار ذلك من قبل النخب الثقافية، عبر تفعيل دور المؤسسات الثقافية والأندية الأدبية والأنشطة المدرسية، وتعزيز لغة الحوار والإصرار عليها، والصبر على الأذى في سبيل ترسيخ «ثقافة متسامحة» بهدف تحجيم «الثقافة المأزومة» التي لا يمكن لها أن تعيش في ظل هذه التحولات الكبرى التي يعيشها العالم، وأيضاً في ظل التحولات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية التي تسعى إلى تعزيز الهوية الدينية بعيداً عن رهانات التطرف والتشدد. 
جحيم الإرهاب قد يبدأ بشرارة صغيرة، تبدو للوهلة الأولى مجرد تطرف فكري أو اختيار فقهي متشدد، في حين أنها تعبر عن رؤية مأزومة للذات والعالم، من السهل أن تتحول من موقف نظري إلى انخراط في عمل تخريبي، متى توفرت الشروط الأخرى، زماناً ومكاناً وتمويلاً، ومتى غاب الرقيب العائلي وحضر المحرض والداعم اللوجيستي، الذي يسهل انخراط الفرد في التنظيم أو انتقاله إلى أي من بؤر التوتر ومحاضن العنف. 
سكان العالم العربي نحو 400 مليون، ونسبة الشباب دون سن 25 تعادل 70 في المائة، والذين يستخدمون الإنترنت من مجمل الشباب نحو 84 في المائة، منهم من يمكث على الشبكة أكثر من خمس ساعات يومياً، ونسبتهم تزيد على 40 في المائة. ولك أن تتخيل أن «محتوى» ما يتم تداوله الآن في أجواء الأزمات هو محتوى بالدرجة الأولى متطرف فكرياً، بعد أن كان في سنوات مضت محتوى متطرفاً دينياً، فمرحلة انحسار الصحوة الدينية وصولاً إلى ما بعد 11 سبتمبر، وأحداث الإرهاب والتطرف التي عاشتها المنطقة، كانت الذروة في إنتاج خطابات متطرفة دينياً، استبدلت بالتفكير التكفير، ثم جاءت الثورات بما حملته من «نقمة» شبابية على الأوضاع المزرية، فاستبدلت بخطابات التطرف الديني خطابات تطرف فكري وسياسي بنفس الأدوات، ويا للغرابة، حتى من نفس المصادر! على سبيل المثال، يمكن أن نلحظ انزياح خطابات الحاكمية والخلافة لصالح شعارات جديدة مفرغة من جوهرها، كالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتعددية السياسية، التي يتم التعامل معها وفق منطق الإقصاء والطرح الشمولي بنفس الدرجة؛ لكن عكس الاتجاه، فالخلط الذي كان يمس قضايا ومفاهيم تتصل بـ«دار الإسلام»، والموقف من الآخر، والولاء والبراء، تم استبدال مفاهيم مدنية بها؛ لكن بمضامين متطرفة، كالنضال السلمي والحقوقي، ومفاهيم الاعتصام والشرعية... إلخ.
والحق يقال، إن تلك القطيعة لم تكن سهلة المنال، ولا نتوقع أن تكون مكتملة إلا بمزيد من الإصرار على الإقبال على المستقبل بمفاهيمه ومشروعاته وقيمه الفكرية والاجتماعية، فالأوضاع في المنطقة ما زالت بعد سنوات الربيع العربي الصعبة تنتج مناخات «أزمة» على مستوى الأفكار والممارسات، والشباب هم وقود هذه الأزمة، وأكثر من يحترق بها بسبب حالة غياب الوعي، فالثورات - الاحتجاجات الشعبية - على اختلاف مواقعها ونتائجها ومآلاتها كانت تعاني أزمة قيادات فكرية، وبما أن التحولات لا تعمل في الفراغ، فإن من المهم إيجاد صيغة توافقية وطنية جديدة تواكب هذه الرغبة المجتمعية في التغيير، نحو مجتمع عصري يجمع بين أصالة القيم وروح التحديث. 
سبعة وثمانون عاماً من الإصرار على الحياة، كثفتها تلك الصور المعبرة والعفوية لبهجة الشوارع التي حطمت أيضاً خيالات وتوهمات، كانت فزّاعة تستخدم لابتلاع منطق الدولة بآيديولوجيا العقل المتطرف.