حلمي شعراوي

 ينشغل عدد من المثقفين بقضية تجديد الخطاب الديني في بلادنا، وكأنه خطاب الحكم بالضرورة، أو الخطاب الرئيس في المجتمع وهذا ليس صحيحاً في كل المجتمعات..فمعظم المجتمعات التى تشهد نزوعاً دينياً مجتمعياً،

تبحث في فصل الدين عن الدولة أو السلطة، وليس فرض الخطاب الديني رغم أن بها نفوذاً هائلاً لبعض القوى الدينية مثل: المريدية أو التيجانية (في السنغال)، والفودية (في نيجيريا)..الخ. من هنا كان لابد لمثقفي العربية مراجعة هذه المسألة للتفرقة بدورهم بين حديث «الدين المقدس بطبعه»، وحديث «التدين» الذي هو من علوم الدنيا السوسيولوجية. ها نحن أمام جهد من عالم اجتماع وليس رجل دين يضع دراسته المعمقة عن العلاقة بالمقدس كسياق عام مستقل تتطور فيه أنماط التدين، وفق تطورات اجتماعية واقتصادية، بل وسياسية متنوعة بطبعها. الكتاب الذي وضعه د. أحمد زايد أستاذ الاجتماع السياسي بآداب القاهرة، لا يجعلك أمام «المقدس» نفسه، رغم أن الدراسة عنه، ولكن أمام السياق المجتمعي دائماً. والكتاب باسم (صوت الإمام.. الخطاب الديني من السياق إلى التلقي). ويبعد «أحمد زايد» نفسه منذ البداية عن القداسة الدينية، ليعالج ما يمكن تسميته «بالمقدس المدني»، ومسعى الدين هنا إلى استملاك الحداثي، بينما يستمر الصراع بينهما بعد استملاك السلطة وتوجيه المجتمع، بل وإلى تملك السلطة للديني والحداثي معاً، عبر أدواتها في إتاحة الفرصة للديني لينوع المنصات الخطابية (أدوات التلقين والتدريب) وفق تطورات السياق... ومن هنا يضع أحمد زايد أحد أهم استنتاجاته عن تشظي الرؤى الدينية مع تشظي سياقات الخطاب الديني. وأرى أنه يصل بذلك لأحد منافذ التطرف الديني الأساسية، ذلك أن أحد السياقات المجتمعية للتدين عند المؤلف هو تدريب النخبة الدينية وخلق مؤسساتها في التنشئة الاجتماعية التي غالبا ما تكون متطرفة، وتقوم على مواجهة الحداثة والغرب (الكفرة) رغم تداخل الاستهلاكية الدنيوية عند الأئمة، والمتدينين وطلاب المؤسسات الدينية، وإن أنكروها بادعاء تحريك السياقات نحو الأخروية، وما بعد الحياة الدنيا!

يقسٍّم أحمد زايد الكتاب إلى ثمانية فصول، تبدأ بالمنهجية، ثم حلول المقدس في إطار جدل الفكر العالمي، وفارق الدين عن التدين، مروراً بطبيعة المنصات الخطابية، أي مجالات بث التدين عبر التعليم وغيره، وينقله ذلك إلى تشكلات النخب الدينية وبناء الهوية وفق رؤاهم، ويخصص فصله الخامس للخطاب الديني وماضويته، حتى غيابه عن الحياة الدنيا أصلاً، أمام صمت المتلقي، ومن ثم غيابه عن دوره الديني تجاه متطلبات التنمية. هنا ننتهي إلى رؤية المؤلف، وما يشبه اقتراحه للعلاقة الواجبة (أو الدمج) بين الخطاب الديني وقضايا النهضة والتنمية. وكأن الدكتور زايد يتوقع بعد كل ما عرضه أن يسهم الخطاب الديني في تطور قضايا النهضة والتنمية في هذا العصر مما يبدو صعباً.

في تقدير أحمد زايد أن المقدس عند الشعوب ليس مجرد الدين، بل هو جزء من التكوين الثقافي الذي يتشكل فيه المقدس مطروحاً على المجتمع. ويصبح السياق الذي يتشكل فيه الخطاب الديني ثقافياً، يخضع كثيراً لسياقات متعددة، بل ويتفاعل مع سياقات أخرى (مصالح وأهداف)، مستقلا ًعن الدين نفسه، ومن هنا يأتي التطرف حين ينغلق الدين على نفسه أو حالة التشظي التي تصيبه. هذه الأدوار المختلفة «للمقدس المدني» وخطابه الديني، أدت في عوالم عديدة إلى توحيد المجتمعات حول «سلعة ثقافية» معينة ذات أثر في النهوض مما جرى صياغته، وخاصة في الغرب (وحتى في الشرق الآسيوي) بتنسيق مع الخطاب المدني العام، ولكنها أدت في رأى العديد من الباحثين في الشرق الإسلامي إلى تشظي الفرق الدينية التي باتت دفاعية أمام الوحدة في الغرب وبالأكثر أمام الحداثة، وأدى هذا التشظي «الدفاعي» في الخطاب الديني (أو المذاهب) إلى إعادة الإنتاج الثقافي في المجتمع، وتكوين الرأسمال الثقافي الرمزي فيه على أساس هذه الفرق المتعصبة، بل وتؤثر سلبياً أو إيجابياً على مجالات التنشئة الاجتماعية...وحيث يرى «بورديو» أن ذلك «في الغرب يدفع» البيئة الفكرية إلى التشكل مع الاستقرار والتلقائية في المجتمع أو مايسميه الهابيتوس ‏Habitus... ‬نجده ‬في ‬الشرق ‬مصدراً ‬للتشظي ‬والفرقة.

وأظن أن هذه الخاصية التي يستخلصها أحمد زايد من دون مبالغة أو ارتباطات أخرى، هي في تقديري أحد مصادر الصراعات الكبرى، أو مهددة باستضافة الصراعات، فيما يسمى الشرق الأوسط، نتيجة تعدد الخطابات والمذاهب،لأنها تعتمد على نقاش غير عقلاني للسياق العام وعدم الرغبة في توحيده (هابرماس..)

يعالج احمد زايد ضمن هذا الكتاب الغني بموضوعات، قضية تكوين «المنصات الدينية» للخطاب ممثله في التعليم الديني النظامي وغير النظامي، ووسائل التثقيف والإعلام، كمصدر لتكوين النخبة (الدعاة – الأئمة) وتنشئة الصغار، وتكوين المتلقي الصامت أو المناقش، وأدوات هؤلاء للنفاذ إلى المجتمع بمواد الخطاب الديني (المتشظي..) ومكوناته غير العقلانية إلى حد كبير، كما يعرض لنماذج تطبيقاته المتنوعة سواء في مصر أو مقارنا مع باكستان وماليزيا وتونس.

وهذه الآليات هي مايسميه «بالمنصات الخطابية» ممثله في النظام التعليمي وتكوين النخبة والدعاة.. بل ويلقي بحجر آخر عن حرص الرأسمالية على دعم منصات للترويج لأصحاب الخطابات حول الدين فيما يشبه السوق التجاري للثقافة الدينية ذات البعد الرأسمالي أو كسوق تجاري استهلاكي (الثقافة الرأسمالية)..ولذا يقدم الفصل الثالث مادة خصبة تفيد في فهم الكثير عن واقع العلاقات بين المنصات المختلفة للخطاب....

إلا أن أحداً لا يستطيع تجاهل موضوعات الخطاب). لنأتي بعد إلى علاقة ذلك بخطاب التنمية المتدهورة. ونفوذ "الإخوان" المتصاعد في هذه الفترة نفسها، وبشكل مباشر في مجال تنمية الأدوات (أو منصات الخطاب!) خاصة فيما ذكر عن الحضانات ومعاهد القراءة الخاصة، وتعليم الإناث. لينفرد طاقم الإفتاء بالرأي محذرين من الخروج على إجماعهم، لأن العلماء ورثة الأنبياء.. ويؤكد الدعاة هذا النفوذ بتأسيس قاعدة الخوف (من عذاب القبر واليوم الآخر) خوفاً على الإسلام، والأزهر والمرأة وهجوم الحضارة الغربية. ليصبح هذا الشاب المقصي عن الدنيا بهذا الشكل هو المؤهل عملياً للتطرف والانحراف إلى العنف والتكفير..

وفي تقديري أن موضوع «التوجه التجاري»، والريعي الأصيل، لما يسمى بالرأسمالية الإسلامية، قد قطع على التطور العربي طريق الحداثة والتنمية. وهذا موضوع بحثي طويل نأمل أن يعود إليه د. أحمد زايد. لأنه َكتب فيه أيضاً من قبل «ماكسم رودنسون» وبيتر جران، «ومهدى عامل» وأحمد صادق سعد «وفوزي منصور» بما لابد أن ندخل في جدله العميق، حيث لا يبدو أن مثقفينا المدنيين والديمقراطيين راغبون في ذلك كثيراً في عصر الانفتاح والعولمة، حتى خرج إليهم «فكر العصر الديني الجديد» من الموقع الجامعي مؤخراً في مصر والنظر في التكفير، كمجرد وجهة نظر في ديانات راسخة!