زياد الدريس&&

«المَخرج البديل عن الحيرة التي ستصيبك أيها الكاتب للاختيار بين الوظيفة أو الكتابة عند بلوغك الأربعين أو الخمسين، هو أن تقرر مبكراً، في العشرينات من عمرك، تأجيل الإعلان عن الكاتب الذي بداخلك مدة أربعين سنة فقط». بهذه العبارة التعجيزية اختتمت مقالتي هنا، الأسبوع الماضي، تحت عنوان: (مثقف ... على الستين).


مكثت في الأسبوع بين المقالتين أتأمل، هل يمكن أن يكون أحد قد نجح بالفعل في تنفيذ الشرط التعجيزي للجمع بين الوظيفة والكتابة ... على التوالي زمنياً؟

وجدت أن الأستاذ عبدالله بن عبدالمحسن الماضي استطاع تحقيق ذلك، وأجزم بأن هناك آخرين (قلّة) استطاعوا ذلك.

وُلد العم عبدالله عام ١٩٣٦م، واستمر يترقَّى في مناصبه الوظيفية حتى بلغ منصباً قيادياً حساساً، تأكد معه أن لا وقت للظهور، ثقافياً وكتابياً، قبل التقاعد وترك الوظيفة، على رغم استمراره طوال سنوات عمله قارئاً نهماً، بل وناقداً دقيقاً لما يقرأ، لكنه «كان يكتم نقده»!

كيف يمكن لقارئ/ ناقد أن لا (تحكّه) يده للكتابة؟ بل على الأصح كيف كان يقمع حكّة يديه طوال أربعة عقود؟! بل زِد على تهييج القراءة، أن أبا عبدالمحسن كانت عنده جلسة يومية بين المغرب والعشاء (صالون منزلي مفتوح) منذ العام ١٩٨٣، أي طوال ٣٥ عاماً وهو يستمع إلى أحاديث وأخبار وآراء ومواقف دينية وسياسية وتاريخية واجتماعية وأدبية، ولا يكتب شيئاً عن كل هذا الكنز اليومي. وقد يظن البعض بأن هذا الصالون اليومي كان متنفَّساً للرجل أغناه عن الكتابة، لكن الواقع غير ذلك، فقد حضرت الصالون مرتين أو ثلاثاً ووجدت صاحب الصالون هو الأكثر إنصاتاً والأقل حديثاً.

في العام ٢٠٠٠ تقاعد الرجل الصامت من الوظيفة فانكسر حاجز الصوت، وبدأ في الكتابة والتأليف. أخرج كتابه الأول (ذاكرة من الزمن) سيرة ذاتية، عام ٢٠٠٥ ثم توالت إصداراته السبعة حتى الآن، ومقالاته التي ينشرها في الصحف السعودية حول التاريخ الوطني خصوصاً، وبالذات تاريخ نشأة حركة الإخوان في هجرة الأرطاوية بالتزامن مع بدايات تأسيس المملكة العربية السعودية، وهو المولود في الأرطاوية والخبير بتاريخها المثير حينذاك.

يقول في كتابه الأحدث صدوراً هذا العام: «فُتنت منذ الصغر بجمع وحفظ النوادر من الأقوال المأثورة والشوارد من أبيات الشعر. واليوم وقد تجاوزت العقد الثامن من العمر عدت إلى التقليب في أوراقي القديمة ووجدت مخزوناً عكفت على جمعه عقوداً من الزمن، ثم بدأت في الانتقاء منها بما يتفق مع حصيلة التجارب التي اكتسبتها عبر السنين».

نحن أمام موظف/ مثقف نادر؛ (فُتن)، ثم صبر على الفتنة أكثر من أربعين عاماً، قبل أن يبدأ بمراودة الكتابة عن نفسها!

&