رامي الخليفة العلي

على امتداد الشهور والأسابيع الماضية تشهد الليرة التركية حالة من الانهيار المتسارع، حتى فقدت ما يزيد على 20% من قيمتها أمام الدولار. وبالتالي دخل الاقتصاد التركي في أزمة حادة لم يشهد مثلها منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في عام 2002. في مواجهة هذه الأزمة لجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الطريق الأسهل لتفسير هذه الأزمة عبر نسبها إلى المؤامرة الخارجية التي تستهدف نظامه وتوجهه السياسي. صحيح أن العقوبات الأمريكية التي فرضت على تركيا ساهمت في تعميق الأزمة ولكنها بالتأكيد ليس هي سبب هذه الأزمة ولا تكفي وحدها لتفسير ما يحدث. الولايات المتحدة وإدارة الرئيس ترامب دخلت في خلافات اقتصادية مع عدد كبير من دول العالم منها دول وازنة مثل ألمانيا والصين وروسيا وغيرها ومع ذلك فإن العقوبات الأمريكية لم تؤد إلى النتائج المتسارعة التي نجدها في تركيا. إذن، لماذا يصر أردوغان على تبني نظرية المؤامرة لتفسير الأزمة، لأن هذا التبني يتيح له الهروب من استحقاقات معالجة الأسباب الجوهرية للأزمة الاقتصادية في بلاده.

قلنا قبل عدة أشهر إن النموذج التركي الذي ساد خلال العقد الأول من الألفية الثالثة خفت بريقه وتراجع إلى حد كبير وبدا أنه يسير في خط بياني نازل. وهذا الواقع ليس له علاقة بالعلاقات الأمريكية ــ التركية، وإنما لأن الأسس التي بنيت عليها هذه التجربة بدأت تتهاوى. حتى عام 2011 رسخت تركيا حزب العدالة نموذجا من الاستقرار السياسي لم تعتد عليه هذه الدولة، وبدا لوهلة أن هذا الاستقرار السياسي ليس لحظة عابرة في تاريخ هذا البلد وإنما بدأ يرتكز على أسس متينة ومؤسسة فاعلة. فالتداول السلمي للسلطة هو مصير التجربة السياسية. والاستقرار السياسي أحد أهم العوامل التي تجتذب الاستثمارات وهذا ما حدث بحيث توجهت أموال طائلة واستثمرت في كثير من المجالات. ولكن رويدا رويدا بدت تلك الصورة خادعة، عندما بدأ أردوغان نفسه يغير في المؤسسات من أجل ضمان استمراريته على رأس هرم السلطة إلى ما شاء الله. ووصل الأمر إلى تغيير الدستور، وهكذا بعد أن قضى أردوغان 16 عاما في السلطة يستعد لقضاء فترة لا تقل عن العقد القادم. للمفارقة، فإن أردوغان تشدق بالاستقرار كمبرر لتلك التعديلات، ولكن الاستقرار الحقيقي يرتبط بمؤسسات راسخة وليس ببقاء نفس الأشخاص في السلطة.

مما تغير أيضا تحول حزب العدالة والتنمية من حزب محافظ ومؤسسة سياسية، إلى حزب الرجل الواحد. وحملت كواليس الحزب الكثير من الخلافات التي أطاحت بشخصيات وازنة وكان لها دور في النهضة التركية المعاصرة مثل أحمد داود أوغلو أو علي باباجان أو عبدالله غل أو غيرهم. وهكذا انفض عن الحزب رموزه وبقي فقط من يوالي السيد أردوغان، فتحول معيار الكفاءة إلى معيار الثقة التي يوليها أردوغان بهذا الشخص أو ذلك. لا بل إن الأمر تحول في الفترة الأخيرة إلى العلاقات العائلية عندما عمد أردوغان إلى تعيين صهره في منصب وزير المالية. حزب العدالة والتنمية الذي كان حزبا حاكما تحول إلى حزب الزعيم بلا منازع، ينجح في عمله كلما استطاع أن يلبي رؤى الزعيم وأهدافه.

في امتحانات السياسة الخارجية التركية وفي ظل تطورات حادة شهدها الإقليم، افتقدت تركيا رؤى واضحة لكثير من القضايا. في المرحلة الأولى من حكم العدالة والتنمية عمدت تركيا إلى تطبيق ما سمي مبدأ (صفر مشاكل) مع الجيران. وهذا بالفعل أعطى دفعة قوية للاقتصاد التركي، وبالتالي الحزب كان يرى أن السياسة في خدمة الاقتصاد. ولكن عندما تغيرت المعطيات على مستوى الإقليم لم يستطع أردوغان أن يحدد مسارا واضحا للمصالح التركية في الإقليم. ربما شعر في لحظة من اللحظات أن ما سمي الربيع العربي فرصة مناسبة لتستعيد تركيا الإرث التليد للدولة العثمانية. وذلك كان يعني عدم قدرة على فهم تطورات الأحداث وسياقاتها السياسية والتاريخية، مما أدى في نهاية المطاف لأن تتحول تركيا إلى جزء من صراعات لا تدخل مباشرة في صلب مصالحها، بل بالعكس فإن هذه الصراعات أثرت في مصالحها، فانتقلت من صفر مشاكل إلى واقع مليء بالأزمات والخلافات مع أطراف إقليمية ودولية، لا تنتهي من أزمة حتى تدخل في أخرى.

المحاولة الانقلابية الفاشلة كانت لحظة فاصلة في تاريخ تركيا المعاصر، لأنها نقلت تركيا من نموذج كان واعدا على مستوى نظرة الحكومات وكذا على مستوى الأفراد والمستثمرين، نقلتها إلى حكم ينقلب على كل ما تم تأسيسه في المرحلة الأولى من حكم العدالة والتنمية. انتخاب السيد أردوغان مثّل ذروة هذا الانقلاب، ففقد البنك المركزي استقلاليته بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، والمؤسسة القضائية أصبحت بيد السيد أردوغان، فكانت قضية القس الأمريكي هي المثال الذي سيبقى عالقا بالذهن لفترة طويلة. الأزمة الاقتصادية في تركيا أزمة مركبة وطالما لم تتم معالجة أسبابها العميقة فإن ذلك يعني استمرارها، وبالنظر إلى تصريحات أردوغان يبدو أنها مستمرة.