& عبدالله بن بجاد العتيبي

&

من الغريب في منطقة الشرق الأوسط أنها منطقة لم تزل تعمل فيها الشعارات الرنانة أكثر من السياسات الواقعية والهويات المتخلفة أكثر من القيم الحديثة، وأوضح مثالين على هذا الدولتان اللتان تتبنيان مشروعين صارخين للأصولية والطائفية في تركيا وإيران.


منذ استطاع الرئيس التركي إردوغان أن يستحوذ على مفاصل الدولة في تركيا ويعزز نفوذه الشخصي والحزبي ضمن استراتيجية واضحة استعملت فيها سياسات معلنة وغير معلنة، ومنذ القضاء المبرم على الخصوم من أحزاب وتيارات، وصولاً إلى الضربة الكبرى التي وجهها لقادته ومعلميه من نجم الدين أربكان إلى فتح الله غولن، منذ ذلك كله أصبحت تركيا تواجه أزماتٍ ومشكلاتٍ تتصاعد.
آخر هذه الأزمات وأشدها وطئا هي الأزمة الحالية مع الولايات المتحدة بسبب اعتقال مواطنٍ أميركي لأسبابٍ لا تبدو واضحة، ولئن بدأت أزمة الليرة التركية قبل العقوبات الأميركية فإنها قد اشتدت أكثر بعد إعلان إدارة الرئيس ترمب عنها والتأكيد على أنه سيتبعها غيرها وفقاً للموقف التركي.
السياسة التركية المعلنة تقود توجهاً معلناً لخلق نموذج جديد يسعى لاستحضار ماضٍ عميق بقدر ما يتنصل من إرث مصطفى كمال أتاتورك والدولة التركية الحديثة، مع تحالفٍ قوي مع جماعة الإخوان المسلمين في الدول العربية وفي العالم، بمعنى التخلي عن العلمانية الأتاتوركية والتوجه إلى الأصولية والإسلام السياسي.


يرافق هذا حلمٌ دفينٌ باستعادة الخلافة العثمانية وقناعة بأن نموذج الأصولية البراغماتية يمكن أن يعيد التاريخ إلى الوراء عقوداً وقروناً من الزمن، نحو وهمٍ مزيفٍ يتم تسويقه على أنه حدث في التاريخ ذات مرة ويمكن استعادته، وفضلاً عن أن التاريخ لا يعيد نفسه فإن أحداث التاريخ يتم تسويقها بعد تزييفها للتأثير في الواقع، وهذا نهجٌ أصولي معروفٌ في خطابات كل جماعات الإسلام السياسي، ومع كل الفشل الممتد لثمانية عقود فإن هذه الجماعات تصرّ على أنه الأنجح والأنجع، بل إنها تسوّق له على أنه هو الإسلام نفسه.
السياسة التركية معروفة - أيضاً - بتبني المتناقضات، فهي تعلن الدعم الكامل لحركة حماس الإخوانية في غزة وترسل سفناً رمزية تحمل الشعارات الرنانة وهي ترتبط مع إسرائيل باتفاقيات وتعاون عسكري واسعٍ، وهي على الرغم من الحرص على الظهور بمظهر القوي الذي لا يتراجع فهي تتراجع وتعتذر بطريقة غريبة، وأوضح الأمثلة الاعتذار الحارّ الذي تم تقديمه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد إسقاط القاذفة الروسية في سوريا، ومن قبل ومن بعد التهديدات تجاه إسرائيل ومن ثم التراجع عنها وبناء مزيد من العلاقات.
ليس من المرجح أن تتبنّى تركيا «العناد الاستراتيجي» كما فعلت حليفتها قطر فمن اعتاد التنازل فسيتنازل مجدداً، والدعم القطري لتركيا بخمسة عشر مليار دولار هو مجرد نقطة في بحرٍ من احتياجات تركيا الفعلية في ظل أزمتها الخانقة، وهي مخاطرة قطرية بعلاقاتها الأهم مع واشنطن، وبخاصة أن قطر تخضع لمقاطعة قوية من الدول العربية الأربع، وهي منذ بدء المقاطعة تخضع لرقابة شديدة على حركة أموالها للحد من دعمها المستمر للإرهاب في المنطقة والعالم.


الهبوط التاريخي وغير المسبوق لليرة التركية مقابل الدولار الأميركي ومعاكسة المستثمرين لرغبة الحكومة، وتحويلهم مزيداً أموالهم إلى العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار (الشرق الأوسط عدد الجمعة الماضي) مؤشر مهم على عدم الثقة والتخوف الذي يسود المتعاملين هناك، فالنزول الكبير لأكثر من أربعين في المائة في فترة قصيرة لا يبعث على الاطمئنان ورأس المال جبان.
تبدو الصورة أكثر وضوحاً في المثال الإيراني، وذلك لعدة أسبابٍ، منها قدم النموذج الإيراني المستمر لأربعة عقودٍ، وطبيعته الطائفية الفاقعة المعلن عنها في الدستور، وسياساته المستقرة في نشر استقرار الفوضى ودعم التخريب والدمار والرعاية الكاملة لجميع أصناف الإرهاب عبر الميليشيات في الشق الشيعي وعبر التنظيمات في الشق السني.
استراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترمب واضحة تجاه إيران، وهي تزداد وضوحاً بمرور الوقت، وتصريحات مسؤولي الإدارة تدفع جميعاً باتجاه المزيد من العقوبات، والمزيد من الحشد الدولي ضد نظام الملالي مع الحرص على دعم الشعب الإيراني المنتفض ضد هذا النظام الأصولي الطائفي، وقد صرّح ترمب أكثر من مرة بترحيبه بالتفاوض مع النظام وفق شروطٍ جديدة ومختلفة كلياً عن الاتفاق البائس، الذي أعلن سابقاً إلغاءه لأنه «أسوأ اتفاق في التاريخ».
بانتظار الحزمة الجديدة من العقوبات الأميركية ضد النظام الإيراني فقد شرعت كبرى الشركات الدولية في الانسحاب من إيران، ولئن كانت بعض الدول الأوروبية تعلن ممانعة تجاه الاستراتيجية الأميركية الجديدة ضد النظام الإيراني فإن الشركات الكبرى معنية بمصالحها مع أميركا وليست معنية بالمناكفات السياسية الأوروبية، والحزمة الجديدة التي تشمل النفط الإيراني سيتم تطبيقها في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
العقوبات الأميركية ضد النظام الإيراني لا يظهر أثرها فجأة بل بالتراكم والاستمرار، فهي أشبه بكرة الثلج التي تتدحرج وتكبر شيئاً فشيئاً، وهو شأن أي عقوباتٍ دولية أو إقليمية أخرى حيث يصبح الوقت هو ألد أعداء النظام الإيراني فبمروره يزداد اختناق النظام ويكون مجبراً على الخضوع.


على الرغم من كل الشعارات التي يطلقها النظام الإيراني، ونبرة المكابرة والتحدي فإنه أيضاً يخضع ويخشى من التصعيد، فيكتفي بما يحفظ ماء الوجه من التصريحات دون إثارة أميركا أو استفزازها، وملالي النظام على كل الشدة التي يظهرونها فهم في الأزمات الكبرى لا يخضعون فقط، بل ويتجرعون السم أيضاً كما هو التصريح الشهير للخميني نهاية الثمانينات من القرن المنصرم.
التشابه بين النموذجين التركي والإيراني في الظروف الحالية لا يعني التطابق، فثمة بعض الاختلافات التي يمكن مراعاتها، غير أن الصورة الكبرى تمنح مجالاً واسعاً للمقارنة بين النموذجين والرؤية الحاكمة والهدف المعلن والطريق المسلوك لكل منهما، وهي تعني أن «النموذج الأفضل» و«المثال» المُحتذى هو في الماضي وليس في الحاضر.
أخيراً، فإن ما يؤكده النموذجان التركي والإيراني هو أن الآيديولوجيا لا تصنع اقتصاداً ناجحاً، والشعارات لا تبني بلداناً قوية ومتماسكة، وأن النماذج التنموية لا تؤخذ من الماضي بل تُبنى في الحاضر والمستقبل، ويمكن المقارنة بالنموذج السعودي الذي يبنى في المنطقة، وذلك أن الضدّ يظهر حسنه الضدّ.
&