عدنان أبو زيد


عراقيو الشتات.. مصطلح ينطبق بشكل كامل على مهاجري البلاد الذين استوعبتهم دول في الغرب والشرق، وفي شمال العالم وجنوبه، بعضهم ألف المكان وقوانينه، واستوعب الأنظمة بتفاصيلها، فيما ضاق آخرون ذرعا بأدوات الثقافة الجديدة، ووجدوا صعوبة في استيعاب النمط الاجتماعي، بحذافيره المتعلقة بالقوانين، وتداعيات الانساق الاجتماعية والإدارية الجديدة.
ومن الناحية السوسيولوجية، فانه لم يعد صعبا تفهّم الوجود العراقي، الذي يصفه البعض بـ"القسري" في بلدان المهجر، باعتبار أن البلاد تمر بمرحلة مخاض سياسي وامني، بعد حقبة حروب طويلة، فيما وجد آخرون انفسهم في حالة من "ضرورة الانسجام" الاختياري، لا الإجباري، بعدما أذعنوا إلى القناعة في أن بلدان المهجر، اكثر قدرة على تلبية احتياجاتهم من البلد الأم في الكثير من المجالات، ما يدفعهم الى الحرص على الأنظمة والقوانين واستيعابها ومن ثم الالتزام بها، من أولئك الذي يرون ينتظرون العودة في يوم ما، إلى الوطن.
لقد أوجدت أسطورة العبور العراقي الى الضفة الأخرى، تجربة اجتماعية جديرة بالدراسة حول قدرة العراقي على التماهي والانسجام مع الشعوب الأخرى، سواء ما يتعلق بالتواصل الاجتماعي مع أفراد المجتمع الجديد، او مع القدرة على الاستجابة والتفاعل مع أنظمته وقوانينه. والسؤال إلى أي مدى تمكن العراقيون المهاجرون من ذلك؟.


&مرونة التفكير&


جزء من الجواب، يتجسد في حديث الفنان والكاتب العراقي ستار كاووش لـ"الصباح" انطلاقا من تجربة الغربة الطويلة، والمسيرة الناجحة في بلد المهجر، هولندا، بقوله إن "الأمر يتعلق بك شخصياً " أي المهاجر" اكثر مما يتعلق بأي شيء آخر، وبما انك تعيش داخل حدود هذا البلد فعليك بكل بساطة أن تراعي ثقافته وتقاليده وطريقة تفكيره، وأن تستثمر هذه البقعة التي تعيش فيها بشكل جيد، وان تصبح جزءا من المكان".
يرى كاووش ان "التزام العراقيين بالأنظمة والقوانين في بلدان أوربا صاحبة التاريخ العريق في هذا المجال، مكنّهم من إثبات ذواتهم، وتحقيق الكثير من النجاح، كما نالوا احتراماً عالياً وشغلوا وظائف مرموقة".
في الجانب المقابل، يشير كاووش إلى أن "الغربة مثلما تحتاج الـى فردية عالية ومحاولات لا تتوقف للحصول على الفرص التي تقود إلى النجاح، فهي أيضا تحتاج الى ان تتلاءم مع قانون البلد الجديد، وان تتعلم لغته وتشاركه بعض عاداته وتقاليده، والنجاح هنا يتطلب مرونة في التفكير والتخلص من بعض التعقيدات والتراكمات غير الضرورية".
كما يحذر كاووش من ان "فتح الباب بشكل موارب في الغرب لا ينفع، بل عليك ان تفتحه على مصراعيه، كي تتنفس هواء الحدائق وتمضي في طريقك، لتندمج مع الناس، الذين يفتحون أذرعهم بمحبة لكل من يريد ذلك".


إثبات الهوية&


تروي المهندسة إيمان البستاني المقيمة في كندا، كيف ان العراقي يسعى الى ملائمة نفسه مع الأنظمة، والمؤهلات الاكاديمية الغربية، في جهد شاق يكلف الكثير من الوقت&
والمال.
تقول البستاني لـ"الصباح": الهجرة هي بداية حياة جديدة مفصّلة على قوالب أنظمة وقوانين الوطن الجديد، ولا يخلو الأمر من سلسلة إثبات هوية واختبارات تزداد صعوبتها كلما كان سقف التحصيل العلمي للمهاجر، عالياً، اذ لا يقتنع الغرب بأنك صاحب شهادة كأن تكون مهندساً او طبيباً مالم تخضع لاختباراتهم ومعادلتهم وتقييمهم لشهادتك الجامعية بموازينهم هم، وبلغتهم أيضا.
تسترسل البستاني: "انها مرحلة لا يمكن وصفها بالسعيدة لما تحوي من قلق واجتهاد ومعاناة واحياناً تتعثر بمسؤوليات الأسرة فيبدو ضغطها على الأعصاب جحيماً، عدا انك تخوض التجربة مرتين، وانت بعمر كان يفترض ان تحصل فيه على مكافأة نهاية خدمة لاقترابك من نهايتها، لا أن تبدأها من جديد".
وترى البستاني ان "العراقي بطبعه صاحب نفس عزيزة لا يريد لها ان تذل، فتراه يحاول ان ينبت في تربة جديدة بما يليق، ولا يمكن ان نصنف هذه التجربة بانها سهلة، فالغرب احياناً لا يفهم عندما تقول لهم انك لم تستطع الحصول على وثيقة التخرج بسبب الأوضاع الأمنية، كما ان امتحانات معادلة الشهادة لا تخلو من دفع رسوم باهظة لذوي الشهادات العليا، وهو ثقل مادي يضاف للمعاناة أعلاه".
وتكشف البستاني عن ان "هناك من لا ينقاد للقوانين ولا يرغب بالدخول في تحدياتها، فتجده أما ان يختار له عملاً بسيطاَ بمهارات يدوية تاركاً تلال الشهادات خلفه، أو يجلس متكئا، وينتظر نهاية الشهر ما تجود عليه الدولة من مساعدات".
الكاتب والمترجم عباس الحسيني المقيم في كندا يتحدث لـ"الصباح" من استنتاجات تجربته كمترجم قانوني معتمد ومحلف في المحاكم الأميركية وفِي دوائر الهجرة والخدمة الاجتماعية والطبية، ليقول ان "مئات الحالات المؤسفة من قبل عراقيين وعرب، تشير الى استغلال القانون وشفافيته، بالكذب وادعاء الأمراض للحصول على الدخل التقاعدي، والتمتع بمرافق شخصي، وسكن مجاني ودعم غذائي، واغلب الحالات هي في ادعاء المرض النفسي، بل وحتى الجنون"، مشيرا الى "تحايل كبير على قوانين الخدمة الاجتماعية واستخدام الأدوية لأغراض لا أخلاقية، وهناك استغلال العراقيين والعرب لبعضهم&
البعض".
ويتابع الحسيني "تستغل الجوامع والمساجد والحسينيات لأغراض مادية، حيث يستغل بعض القائمين عليها، عوائد الحكومة الفدرالية في اميركا، التي تعتبر دور العبادة منظمات غير نفعية فتدعمها ماليا، لتذهب المساعدات الى جيوب المتربحين من ذلك".
ويشير الحسني الى "حالات الطلاق المزيف الذي يعطي دخلا مزدوجا للمطلقة وطليقها على حد سواء، وهناك حالات اشراك رعاية الأطفال في العوائد الضريبية بكل بشاعة وقلة احترام للعاملين الأميركيين".


نجاح واخفاق


الناشط المدني والكاتب علي موسى الموسوي، المقيم في النرويج، يرى ان "العراقي في الغرب لا يميل في الغالب إلى تغيير عاداته على الرغم من تطور حياته، فهو يظل محافظًا أغلب الأحيان على العادات والتقاليد التي تربى عليها ".
يقول الموسوي: "الذين اندمجوا مع المجتمعات الغربية من خلال تعلمهم اللغة والدراسة في الغرب باتوا اكثر انتاجا، وعكسوا صورة عن الفرد العراقي المنتج المجتهد، مقابل ذلك، هناك من وصل إلى الغرب من أجل أن يأكل ويشرب فقط ليصبح عالة على المجتمع الجديد، الأمر الذي جعل البعض ينظر بسلبية للفرد العراقي".
في ذات الوقت، يكشف الموسوي عن "عراقيين تسنموا مناصب مهمة وأصبحوا رموزا في الغرب في السياسة والاقتصاد والثقافة والفن والرياضة وأصبحوا قدوة للشباب المهاجر في الاجتهاد والمثابرة والنجاح، وقد أدى ذلك الى وصول شخصيات عراقية في النرويج والسويد والدنمارك والنمسا الى البرلمان ومجالس المحافظات، واصبح آخرون مدراء مؤسسات مهمة ومستشارين".


&وجهة نظر نفسية


الباحث الاجتماعي والنفسي احمد عباس الذهبي، يشير في حديثه لـ"الصباح" الى "ما يواجه المهاجر العراقي، كما سائر المهاجرين في الغرب، يتجسد في القدرة على الاندماج الاجتماعي والثقافي، ومحاولة مسايرة المجتمع الغربي في تقاليده وأعرافه"، مؤكدا انه "كلما تكامل الانسجام النفسي والروحي للمهاجر، ارتفع حماسه إلى تطبيق القوانين والأنظمة".
ويشير الذهبي إلى دراسات في العام 1912 بحثت التركيز على الآثار النفسية السلبيّة للهجرة الناتجة عن التوتّر الّذي يسبّبه الاستئصال الثقافي، واعتبار المهاجر كائنا كلّيا "بيولوجي – نفسي – اجتماعي" يواجه عقبات، في المجتمع الجديد، تختلف من حيث شدّتها ونوعها، لا بل في وجودها أيضًا، من مهاجر إلى آخر، وذلك، تبعًا لعوامل، أهمّها البنية النفسيّة الفرديّة لكل شخص، والحالة الاجتماعيّة والعمريّة، والوضع الاقتصادي، ودرجة الثقافة والخلفيّة الاجتماعيّة، وأسباب الهجرة وفيما اذا كانت طوعيّة أو قسريّة، أو فرديّة أو جماعيّة، أو شرعيّة أو غير شرعيّة، وكلها تحدد قدرة المهاجر على تلبية شروط العيش في المجتمع الجديد، لاسيما المتعلق منها بالأنظمة والقوانين.