شما بنت محمد بن خالد آل نهيان

(كل باب يغلق برغبة صاحبه لا تطرقه أبداً) جملة مررت بها خلال تصفحي لشبكات التواصل الاجتماعي، فتوقفت عندها متأملة، وإذ بي وسط صخب من الأفكار والتساؤلات، وأرى ثمة أفكاراً مخبأة في مضمونها، فهل حقاً لا يجب أن نطرق على الأبواب التي تُغلق؟ وإن فعلنا أليس هذا استسلاماً لواقع قد نأمل في تغييره؟! أم يجب علينا ألا نكف عن الطرق على تلك الأبواب مهما كانت الأسباب؟ أصبح الأمر بالنسبة لي ليس مجرد جملة عابرة وسط مئات الجمل التي تمر بنا في شبكات التواصل الاجتماعي، بل رأيت فيها انعكاساً لواحدة من قضايانا الإنسانية المهمة، وهي التمسك والإصرار على الوصول للهدف. الباب هنا يعكس رمزية الكثير من الأهداف الحياتية التي يحيا من أجلها الإنسان، رأيت فيه ثلاثة من الرموز الأساسية المهمة وهي: باب المعرفة وباب الانتماء وباب العلاقات الإنسانية.&


فجميع الأبواب وراءها واحد من تلك العلاقات أو فروعها ويبقى السؤال ملحاً مصارعاً انزواء الصمت باحثاً عن نور يجيب عنه.
وباب المعرفة، هو الباب الأساسي في الحياة الإنسانية التي يجب أن يطرقه كل إنسان بحثاً وراء الوعي، فالمعرفة تبني الهيكل الفكري في الإنسان وتعطي العقل الوعي والإدراك، وتجعل منه فضاءً متسعاً يحتوي على الكثير والكثير من العلاقات المعرفية المتشابكة التي تتفاعل مع بعضها، لنحصل على ملامح الفكر الإنساني الذي يشكل انعكاساً تختلف تفاصيله بين الثقافات المتعددة التي تكون الثقافة الإنسانية، وكذلك بين الأفراد داخل الثقافة الواحدة.


الوقوف أمام الأبواب المعرفية المغلقة ساكنين هو حالة موت، فالباب قد لا يفتح اليوم، ولكن حين نبقى عازمين على كشف تلك المعارف التي وراء الباب ولا نكف عن الطرق عليه بكل حماس وقوة حتماً، سيأتي يوم تضعف فيه مقاومته ويفتح لنكتشف ما خلفه من معارف تضيف لنا كأفراد ومجتمعات وكحضارة إنسانية جامعة. من المعروف أن «توماس أديسون» أجرى ألفي محاولة لاختراع المصباح الكهربائي قبل أن ينجح، ظل يطرق على الباب حتى انفتح في النهاية، كلنا ندرك قيمة المصباح الكهربائي للبشرية جميعها وليس لذاته أو مجتمعه أو زمنه فقط.


تلك هي أبواب المعرفة تظل موصدة لكنها أمام الطارق الباحث دوماً عن المعرفة المختبئة خلفها ستنصت يوماً لوقع طَرْقاته وتنفتح. أبواب المعرفة قد يكون وراءها فكر لآخر نختلف معه، فهل هذا يجعلنا لا نطرقها ونبحث عن تلك الأبواب التي تحمل عناوين من يشبهوننا؟ بالقطع لا فهذه طريقة تؤدي بنا للجمود الفكري، فالتفاعل مع أفكار الآخر وطرق أبواب معارفهم والدخول لعالمهم وقبول دخولهم لعالمنا والتفاعل بين الأفكار من خلال التحاور في إطار من التسامح والقبول والإقناع والمحبة الإنسانية حتماً سنصل إلى منتج إنساني أكثر عمومية وفاعلية، فنحن أجزاء متناثرة من المعرفة الإنسانية الأشمل، فحين نتجمع ونتبادل أفكارنا ومعارفنا تكتمل الصورة وكأننا في لعبة (تجميع الصورة) التي ننجح فيها حين نجمع كل قطع الصورة داخل إطارها بعناية ودقة، ولن يكون ذلك إلا إذا قبلت كل قطعة أن تحتل القطعة الأخرى مكانها بجوارها فتكتمل الصورة.
أما باب الانتماء، فكل إنسان لديه انتماءات متعددة ومتنوعة، ويظل الانتماء الوطني هو أهم هذه الانتماءات التي تدفع الإنسان المنتمي لوطنه لطرق كل الأبواب التي يختبئ خلفها مستقبل أجمل وأفضل لوطنه، حتى تفتح الأبواب ويغمر وطنه بالخير الذي وراءها. دائماً ما يلفت نظري الكثير من الأمثلة المشرقة في الوطن العربي وفي العالم التي تؤكد ذلك، لكني توقفت عند تجربة النائبة اللبنانية «بولا يعقوبيان»، لقد تابعت تجربتها خلال الانتخابات اللبنانية، وحتى الآن وأنا لست هنا بصدد الحديث عن النجاح السياسي، ولكن أُقيم التجربة بجانبها الوطني والإنساني، فكم ناضلت وما زالت من أجل القضايا البيئية في وطنها لبنان بكل الوسائل التي امتلكتها، والتي تمكنت في المزيد منها. وبعد فوزها في الانتخابات اللبنانية، لم تقف أمام أي باب مغلق واستسلمت، بل طرقت كل الأبواب ومازالت تطرقها من أجل الإنسان والحياة الإنسانية النظيفة في وطنها، وحاولت معالجة أزمة النفايات المستعصية منذ فترة طويلة، وأرى اقترابها من النجاح باستمرارها بنفس العزيمة والإصرار، لقد آمنت «بولا» بقيمة الإنسان داخل الوطن، فكان انتماؤها الصادق لوطنها دافعاً للاستمرار في طرق كل الأبواب. وعندما نؤمن بفكرة ويكون لدينا هدف وخطة للوطن الذي نحن جزء منه، نصبح قادرين على تغير الوعي في المجتمع وتحقيق كل أحلام الوطن والتي نراها قائمة خلف العديد من الأبواب المغلقة التي لن تتوقف كفوفنا عن طرقها مهما أوجعتنا الطَرْقات، لكن في تلك اللحظة التي تفتح فيها سننسى كل تلك المعاناة أمام فرحة إنجازنا للوطن الذي ننتمي إليه.


وفي العلاقات الإنسانية، تظل الجدلية الكبرى هل نتوقف عن طرق الأبواب التي أغلقها الآخرون ولا يسمحون لنور العلاقات الإنسانية السوية أن تغمر الحياة؟.. هل يجب أن نظل مرابطين عند عتبة الباب الذي أغلقه أحدهم في هدوء وننتظر أن يعيد فتحه؟ أم نطرق عليه بهدوء أو بصخب أم ننسحب بعيداً عن تلك العتبات، وقد يأتينا من أغلق ذلك الباب يوما ليطرق هو على أبوابنا؟
أرى أن طرق الأبواب في العلاقات الإنسانية خاضع لعدة ظروف وعوامل قد تحكم استمرارنا في الطرق أو الانسحاب أو الانتظار في صمت، فهذا الأمر يتوقف علي نوع الإنسان الذي نطرق بابه ومدى العلاقة التي تربطنا به، والأسباب التي دفعته لإبقاء الباب مغلقاً أمامنا. كل تلك الأسباب قد تتحكم في إرادتنا الذاتية، هل نستمر في طرق الأبواب، أم ننسحب في هدوء وصمت أم ننتظر؟
يبقى طرق الأبواب المغلقة في مجمله قيمة إنسانية يجب أن نتمسك بها، ولا نتوقف عند الانسحاب، بل نظل نحمل في وجداننا الأمل أنها يوماً ما ستفتح، ويظل هذا الأمل هو الدافع لاستمرار الطرق على الأبواب المغلقة حتى يأتي اليوم الذي تفتح فيه ويغمرنا النور الكامن خلفها.

&

&

&