غسان شربل

&نادراً ما قيّض لوجهٍ أن يختزل قصة صاحبه وقصة العالم معا. كان وجه كوفي أنان من هذه القماشة الفريدة. حمل الأحزان العميقة الوافدة من القارة السمراء وحمل معها عناداً واضحاً في البحث عن عالم أكثر إنسانية أو أقل وحشية. وغاب أنان من دون أن تتقاعد إرادته أو أحزان وجهه.
يحب الكتاب الرجال الصاخبين. الذين يطحنون بلدانهم أو جيرانهم. القصص المثيرة تساهم في تلميع الكلمات. لم تكن سيرة أنان مثيرة أو صاخبة. لم يتزعم ثورة. ولم يتسلق على الجثث. تدرب على سلاح وحيد اسمه الشرعية الدولية. وهو سلاح براق وهش. يسعفك حيناً ويخونك أحياناً.
في أول الكتابة كنا نبتهج بالأخبار الفظة وكبار القساة. مآثر الإمبراطور بوكاسا وولعه الشديد بنابليون. غرابات عيدي أمين وصدره المثقل بالأوسمة. وأهوال موبوتو سيسي سيكو الذي أمر بإلقاء النادل للتماسيح لأنه ارتكب خطأ حين كان السيد الرئيس يتسامر على يخته مع رجل أعمال فرنسي. لم يكن أنان أبداً من قماشة هؤلاء. ولم يصعد في عتمات الثكن أو مطابخ المكائد. منذ البداية اختار الانضواء في البيت الدولي. وعلى مدى أربعة عقود راح يحفر دوره وصورته.
حين اختير أميناً عاماً للأمم المتحدة بدا الأمر شبيهاً بتعيين عسكري متدرج قائداً للجيش. رجل يعرف المكان بتفاصيله لأنه تقلب في أروقته. المفاوضات والصلاحيات والميزانية والبيروقراطية ومهمات حفظ السلام. وكان يدرك تماماً أن الأمم المتحدة قوية حين يعيرها الكبار من قوتهم عبر توافقهم. وأن الأمم المتحدة مشلولة حين يتحول مجلس الأمن حلبة لتسديد الحسابات وتحريك سيف الفيتو لقطع أعناق مشاريع القرارات. وكان يدرك مثلاً أن لا قدرة للمنظمة الدولية على فرض تطبيق قراراتها إلا بقوة الكبار وأحياناً جيوشهم. وأن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية، وأن بوصلتها تعمل وفق شبكة المصالح لا نصوص المبادئ.
يفترض بالأمين العام للأمم المتحدة أن يكون سباحاً ماهراً وسط تلاطم الأمواج. وأن يكبح شهية تسجيل المواقف علانية التي حرمت بطرس غالي من ولاية ثانية. على الأمين العام أن يسبح دائماً بين الدول الدائمة العضوية. وأن لا ينسى خلال السباحة أوجاع الدول الصغيرة، وأن الأمم المتحدة شيدت «من أجل الشعوب وليس فقط الحكومات». وفي مناخات التوافق كان السباح يبدو قائداً. وفي مناخات التجاذب الدولي كان يبدو وسيطاً مرتبكاً مهدداً بالغرق مع حقيبته ومنظمته.


كان أنان يعرف أن قيام عالم أقل ظلماً يستدعي ما هو أكثر من تدبيج توافقات صعبة على قرارات صعبة. كان يدرك أهمية إثارة الاهتمام الدولي بالتنمية والتعليم وتطوير الاقتصاد واحترام كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية وإشراكه في بناء مستقبله. وكان يدرك أيضاً أهمية أن تسلط الأمم المتحدة الضوء على ملفات البيئة والتغير المناخي. وكان شديد الاهتمام بتعزيز سياسة بناء الجسور بين الأعراق والأديان والمذاهب والشراكة في قطف ثمار التقدم العلمي والتكنولوجي والإنساني والثقافي.


من مكتبه في البناية الزجاجية رأى أنان العالم ينخرط في عاصفتين قاسيتين. الأولى حين ارتكبت «القاعدة» هجمات 11 سبتمبر طامعة في إضرام خطوط التماس بين الغرب والعالم الإسلامي. ولم يكن سهلاً يومها احتواء غضب الإمبراطورية الأميركية الجريحة التي استهدفت رموز هيبتها ونجاحها. والثانية حين تحرك الجيش الأميركي لاقتلاع نظام صدام حسين ومن دون الحصول على موافقة من الشرعية الدولية. ولم يكن أمام الدبلوماسي الصبور غير أن يعلن عدم شرعية هذا التحرك من وجهة نظر الأمم المتحدة. وكانت الانقسامات الدولية تذكر الأمين العام بمحدودية دوره حين يشتد التنازع بين العواصم الكبرى، وهو ما عاد وتذكره حين حاول الاقتراب من جمر الأزمة السورية بوصفه مبعوثاً للأمم المتحدة والجامعة العربية، ولم يكن أمامه غير الانسحاب مكتفياً بدوره في نادي الحكماء.


خلال عمله الطويل في الأمم المتحدة كان أنان شاهداً على أزمات معقدة وسلوكيات خطرة ومذابح واسعة. وليس سهلاً على أمين عام للأمم المتحدة أو مبعوث دولي أن يعترف بالعجز الدولي ويكتفي بغسل يديه من الأزمات. لهذا كان أنان يشعر بالمرارة. كان يتمنى لو أن الأمم المتحدة نجحت في تخفيف الآلام في رواندا وسريبرينيتسا. ولو نجحت في اختصار أمد المذبحة السورية وقبلها في منع انزلاق العراق إلى الهاوية. يشعر الموظف الدولي المؤمن بالسلام بقدر من المسؤولية عن فشله في منع تراكم الجثث في هذا البلد أو ذاك. وفشله في وقف أمواج النازحين. وفشله في وقف آلة القتل سواء أدارتها حكومات أم ميليشيات.


حين يمثل كوفي أنان أمام محكمة التاريخ يستطيع الإدلاء بإفادة طويلة موجعة. لم تكن الكوارث التي انفجرت بعد زوال عالم المعسكرين سهلة على الإطلاق. غابت صمامات الأمان السابقة وأفلتت الذئاب الإقليمية من عقالها. أحلام نووية وصواريخ بعيدة المدى وتدخلات بلا رحمة. تحتاج الغابة الدولية دائماً إلى من يردع ويضبط ويزجر. لكن قدر الأمين العام أن يستعين بأطباء ساهموا في انتشار المرض ورش الملح على الجروح.
كان أنان شاهداً كبيراً في حقبة ثرية وخطرة من عمر العالم. وهو غاب حاملاً جروحاً كثيرة بينها جرح التشكيك في نزاهته بعد الأنباء عن تورط نجله في صفقات تتعلق ببرنامج «النفط مقابل الغذاء» في العراق.
غياب أنان خسارة للحالمين بعالم أقل وحشية. لا يتسع المكان لإحصاء جروح روحه. حياته كانت دفتراً لجروح كثيرة.