&عزت صافي&

على مسافة خمسة كيلومترات، لجهة الغرب، من القدس، على الطريق المؤدية إلى تل أبيب، يجلس الفلسطيني يعقوب عودة (77 سنة) عند مفترق ضيق يؤدي إلى بيته في قرية «لفتا». يواظب يعقوب على جلسته الصباحية كل أسبوع في فصول الصحو، وقليلاً ما يصعد إلى التلة التي بنى عليها والده بيت العائلة قبالة القدس، فهو كان في السابعة من عمره عندما دهمت العصابات الصهيونية قريته وأخرجت العائلات من بيوتها ودفعتها نحو الطريق العام، فقتلت الرجال الذين قاوموا، واستولت على البيوت، وما فيها، وتركتها مشرعة لفصول الطبيعة وسط أشجار الزيتون، والتين، واللوز، فلم يبق منها سوى الأبواب والنوافذ العارية والقناطر الحجر القديمة.


يحافظ يعقوب على موطئ قدمه في «لفتا»، على أمل بأن تنجو من الهدم (الحياة – 16 – 11 – 2017) وقد نجح أهل البلدة النازحون عنها قسراً، بالتعاون مع مواقع التراث العالمي وجمعيات حقوق الإنسان بمنع «دائرة أراضي إسرائيل» من بيعها في مزاد علني لبناء مركز تجاري وفندق عليها.

لكن «لفتا» التي يعود تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد لن تنجو من جرافات الدمار والموت. هذا هو شعور يعقوب عودة الذي يبقى «مرابطاً» وحيداً على مدخل «لفتا»... إنه الشعور العميق الراكد في القلب الفلسطيني الحي النابض على دوام الحياة.

وفي هذا الزمن العربي- الفلسطيني- الدولي- الأممي- الرديء، ينشغل الفلسطينيون بكارثة قطاع غزة، وهي كارثة النزاع السياسي، الوطني، القومي، بين «حماس» و «فتح». وإذا كانت غزة هي التي تنضح دماء وأرواحاً تفوق قدرة الذات الإنسانية والقومية على تحمّل الصبر والألم، فإن بوصلة الأمر الواقع تتجمد على علامة استفهام كبرى مرسومة على الكيان العربي بمجمله، وعلى المجتمع الدولي بأسره، ولا تُستثنى ولا دولة منه. وفي هذا الوقت تنشط حكومة نتانياهو مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على تحقيق حلم الصهيونية التاريخي بإعلان القدس الشريف «عاصمة» لدولة إسرائيل القومية اليهودية... فماذا في المقابل، أي في المستقبل؟! سؤال يصعب الجواب عنه... لكن الباحث عن الجواب قد يجده في سيرة رجل علاّمة وفيلسوف فرنسي شهير اعتنق الإسلام، إيماناً وسلوكاً، ونذر إنتاجه الفكري والثقافي والعلمي لقضية فلسطين. إنه روجيه غارودي.

وبالعودة إلى تراث ذلك المفكر الفرنسي الكبير تُستعاد صفحات من زيارة له إلى بيروت في صيف العام 1993 ضمن جولة له شملت سورية والأردن، بدعوة من «المنتدى القومي العربي» و «المؤتمر الدائم لمناهضة الغزو الثقافي الصهيوني»، وكانت ترافقه زوجته الفلسطينية المسلمة، وهو كان قد بلغ الرابعة والثمانين، وهي في عمره تقريباً، وكانت حريصة على مراقبة ما يقدّم إليه من ضيافة وتكريم بعد الندوات التي كانت تُعقد للاستماع إليه، وقد وجد نفسه في بيروت وبعض المصايف الجبلية بين أهل له، ومريدين، ومقدرين لنهجه السياسي والثقافي، ولإيمانه الروحي وشجاعته إلى حدّ المغامرة بحياته، وهو المريض الذي كان يتحامل على ضعفه الجسدي ليفضح الإعلام الصهيوني في الغرب ومزاعمه وأكاذيبه المموهة بمفردات قيم الحرية والديموقراطية والعدالة. وفي حفل تكريم له أقيم في أحد أشهر مرابع الصيف في مدينة عاليه تحدث في الهواء الطلق عن الصهيونية بوصفها مؤسسة إجرام ولّدت إسرائيل في الشرق العربي بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، لمساعدتها في الهيمنة على مقدرات دول المنطقة، ولم يكن يستثني دول أوروبا، وفرنسا بلاده.

وفي ندوة له في بيروت وقف مقدم البرنامج المعرّف به فقال: «نحن الليلة على موعد مع الشيخ روجيه غارودي الذي يقرأ القرآن الكريم ويرى فيه وجه السيد المسيح، ولا يتلعثم وهو يدحض التناقض بين أن يكون مسلماً أو مسيحياً»، وكأنه اكتسب أسمه العربي منذ ولادته بالأحرف اللاتينية، والاسم لعائلة لبنانية مسلمة عريقة في لبنان وفي أقطار عربية أخرى، حتى أن البعض جعل الاسم عربياً ليلفظ «رجا جارودي».

وعندما جاء دور الضيف الفرنسي الكبير جهد ليتحدث بالعربية فقال ما خلاصته: «أنا أستاذ في الفلسفة، وقد قرأت كل كتب الأديان والفلسفات فناقشتها وقارنت بينها حتى اهتديت إلى دين الإسلام، وإني مسلم والحمدالله، وأشعر بشرف، وفخر، وطمأنينة، وراحة نفس وصفاء عقل بانتمائي إلى هذا الدين العظيم».

وعلى موعد آخر في مدينة جبلية أخرى اشترط أن يكون اللقاء في الساعة العاشرة ليلاً، ففي ذلك اليوم ذهب غارودي إلى بلدة «قانا» الجنوبية التي كانت شهدت مجزرة ارتكبتها العصابات الإسرائيلية وذهب ضحيتها عشرات الشهداء من الشيوخ والنساء والأطفال الذين كانوا نُقلوا إلى خيمة كبرى تابعة لقوات الأمم المتحدة لحمايتهم، فأغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على الخيمة وحوّلتها مقبرة جماعية للذين لجأوا إليها.

وفي تلك الليلة عاد الضيف الكبير إلى موعده على شرفة فسيحة في البلدة الجبلية، وكان قد تحدث خلال رحلته إلى «قانا» في مدن وقرى جنوبية عدة عن خطر إسرائيل، والصهيونية، ليس على اللبنانيين فحسب، بل على العالم العربي بأجمعه، وقال لمستقبليه إنه هو، شخصياً، مهدّد بالقتل لأنه يخوض معركة كشف زيف الأساطير الصهيونية التي تُبنى عليها السياسة الإسرائيلية المعادية لحقوق الفلسطينيين خصوصاً، وللعرب عموماً.

قبل افتتاح ندوة الفيلسوف غارودي على الشرفة الجبلية المطلّة على بيروت كان الضيف الكبير ابن الرابعة والثمانين من العمر يبدو مرهقاً، بل متهالكاً، وهو كان صريحاً، فقال لجمهوره بأسلوب يجمع بين الجد والمزاح: «إذا كنتم تريدون تحقيق أمنية الصهيونية وإسرائيل فلا تدعوني أذهب إلى غرفتي في الفندق لأرتاح... فأموت هنا الليلة وأعود إلى فرنسا في نعش! ثم أردف: ولا أظن أنكم تريدون ذلك، فأرجوكم أن تعفوني في هذا الوقت المتأخر من العشاء، من الحديث إليكم هذه الليلة، على أمل أن يكون لي لقاء آخر معكم إذا سمح الوقت الباقي من زيارتي للبنان قبل مغادرتي إلى دمشق، ومنها إلى عمان.

لقد أدرك ذلك الفيلسوف الفرنسي باكراً الدور الخطير الذي التزمته الولايات المتحدة الأميركية بالتنسيق مع المنظمات الصهيونية، لتخريب الأنظمة التي لا تخدم مصالح واشنطن وإسرائيل، وهو كان يرى أميركا وراء تأسيس عدد من الأحزاب السياسية في أوروبا للعمل ضد الدول العربية، وسواها من دول الشرق الأوسط التي تعادي إسرائيل، وكان يعطي مثالاً على صحة رأيه بالحرب – العدوان التي شنتها فرنسا بزعامة الحزب الاشتراكي الحاكم عام 1956 على قناة السويس بالتحالف مع إسرائيل وبريطانيا. ويعود غارودي في العام 1968 ليتهم الولايات المتحدة الأميركية بالتواطؤ مع إسرائيل لإثارة الاضطرابات في فرنسا ضد الرئيس شارل ديغول، ويعطي البرهان بالتظاهرات الطالبية التي نظمتها المؤسسات الصهيونية بقيادة الطالب الجامعي اليهودي كوهين بنديت، وقد أسفرت عن استقالة شارل ديغول من الرئاسة بعدما حلّ البرلمان ودعا إلى انتخابات نيابية جاءت نتائجها بنسبة أقل من ستين في المئة من الأصوات، وهو الحدّ الذي جعله ديغول شرطاً للبقاء في الرئاسة، وكان يضمن له الفوز، لكنه دون المعدل الذي جعله ديغول شرطاً للبقاء في قصر الإيليزيه.

الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل، والصهيونية العالمية، ثالوث عدائي للعرب ولفلسطين، ولجميع المسلمين في العالم، ولكل الشعوب المكافحة من أجل كرامتها وحريتها وحقوقها المشروعة. هذه الخلاصة جعلها روجيه غارودي قاعدة لنضاله الفكري المدني والإنساني بإيمان ثابت لم يتزعزع في جهاده.

وقد عاش روجيه غارودي حتى الشهر الحادي عشر من مئويته (17 تموز- يوليو 1913 –حزيران - يونيو 2012). وهو رحل قبل أن يرى الفلسطيني ابن الأصل، والأرض، والتاريخ، وقد بات مهدداً بأن يتحول «غريباً» في بلاده بتذكرة هوية ملغاة من سجلات الدولة القومية اليهودية العنصرية، وقد تُستعاد مجازر العام 1947 لمحو آثار القدم الفلسطينية عن أرض الرسل والأنبياء.