محمد الساعد

في العام 1299 قدم «أرطغرل» أبو الدولة العثمانية هو وعشيرته من أقاصي آسيا حيث ينتمون للعرق المغولي إلى أواسط الأناضول متحالفين مع السلاجقة الذين منحوهم حق الإقامة في تلك البراري مقابل حربهم ضد الخوارزميين، كانت تلك بداية تأسيس الدولة العثمانية كما عرفناها بعد ذلك طوال 600 عام، دولة عرق لا دولة خلافة كما يريد إعادة إحيائها «العثمانيون الجدد».

هناك جدل كبير في أواسط العامة وبعض المثقفين، يدورحول نقد التجربة العثمانية ليس على يد الأتراك فهذا شأنهم وهم أعرف به، لكن ما يخص العرب الذين وقعوا تحت الاحتلال التركي العثماني ولهم وجهة نظر فيه.

الغريب أن المدافعين عن حلم «السلطنة العثمانية» نقلوا القضية من نقد تاريخي وسياسي إلى باب المحرمات الدينية، ولا يريدون ممن وقع أجدادهم تحت الاحتلال العثماني لقرون أن ينقدوها أو يعيدوا قراءتها بل يطالبونهم بالانخراط معهم في مشروع تسويق «الخلافة العثمانية»، أو تتم شيطنتهم وتشويههم.

خلال ستة قرون بنى العثمانيون دولة «تركية» المعالم لا تشبه أحدا سوى ملامح عرقهم «المغولي» ولا تعمل إلا بطريقتهم الخاصة وبما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم وهذا حقهم ولا ينازعهم فيه أحد، لم يبنوها لنا ولا لغيرنا من الشعوب التي احتلوها، ما شيدوه من نظام معماري في مدنهم وطرقاتهم لا يزال جميلا لكنه في حواضرهم وقراهم، بنوه لهم ولأبنائهم وزوجاتهم وأحفادهم وحياتهم الباذخة المنعمة.

لم يعش أجدادي ولا أجداد كل السعوديين في رغد العيش كما عاشه الأتراك في إسطنبول وأنقرة وطرابزون لستة قرون متتالية، كنا جائعين بلا طعام، نسكن الطين وهم يسكنون القلاع والقصور المنيفة، مرضى بلا علاج ومصحاتهم في أطراف حارتهم، غرس الجهل أطنابه في مجتمعاتنا البدائية قرونا وهم منعمون بأموال زكاتنا وما يأخذونه جباية من حصاد مزارعنا ونخلنا وتجارتنا على قلتها، فالقليل عندما يجمع يصبح كثيرا.

بنوا نظاما سياسيا واقتصاديا صارما يصب فقط في خدمة مصالحهم ويحمي مشروعهم التوسعي، يعتمد على أن تكون الدولة «العثمانية» المركزية في إسطنبول مستقرة وغنية دون النظر لأحوال وحاجات شعوب الأطراف التي خضعت لهم.

لم نسمع قبل ثلاثمئة عام في عز الدولة العثمانية عن عالم عربي واحد استقطبته الأستانة وعلمته وأعادته إلى بلاده ليحمل مشاعل النور والتنمية، لم نر قافلة يتيمة توجهت نحو قرية فقيرة في أواسط جزيرة العرب انتشلتها من براثن الموت جوعا، لم نسمع عن أطباء «وتمرجية» ابتعثوا للهجر والمناطق النائية لعلاج المرضى والمساكين.

لم يشيعوا تجربة تنموية بين رعاياهم، لم توزع الخدمات والثروات بعدالة، كان يتم التحكم في المقاطعات والمدن بإنشاء المحميات العسكرية حولها، وينحصر دورها في دعم قائم المقام والقضاء على أي محاولات استقلال للشعوب المحتلة.

ولتستقر دولتهم أعملوا المذابح وهجروا السكان الأصليين بلا رحمة، و«سفر برلك» خير شاهد على ذلك حين لم تسلم حتى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم منها.

النظام الاقتصادي اعتمد على جباية الأموال «السهلة» وتدويرها في صالح الاقتصاد العثماني، أما البلاد العربية حيث «يكد» أهلها ويشقون ويرسلون أموالهم إلى «تركيا العلية» فلا تعود تلك الأموال عليهم أبدا.

لم يبنوا نظاما قضائيا أو بلديا أو زراعيا أو رعاية صحية، ولا توجد مثلا سجلات مدنية كما هي في بلدياتهم عدا بالطبع بضع سجلات قضائية ووقفية عن مكة والمدينة.

مقارنة بسيطة بين بعض المدن والحواضر في الجزيرة العربية وبين المدن التركية خلال فترة الاحتلال، تعطيك ملمحا عن النظام الذي استحوذ على الأموال وكدسها وبنى بها مدنه الجميلة وقصوره المنيعة الرائعة وجوامعه الضخمة، من يشاهد جوامع إسطنبول ويقارنها بصور قديمة للحرمين في العهد العثماني يعرف فورا كيف كان يفكر العثمانيون.

لعل من المدافعين من يذكر لنا أثرا لطريق معبد يشبه طرق إسطنبول أو حديقة غناء كما حدائق السلاطين التي كانوا يقضون فيها أوقات راحاتهم مع زوجاتهم وجواريهم، أو جامعا يشبه الجامع الأزرق أو السليمانية أو الحميدية.. إلخ، أو مدرسة بنيت عدا مدرستين في مكة وجدة لتعليم أبناء الحامية العثمانية وباللغة التركية فقط.

كل ذلك يعطينا ملمحا بسيطا عن مدى الإهمال المتعمد والممنهج الذي أغرقت فيه تركيا الجزيرة العربية، فماذا الذي يبرر للعثمانيين الجدد هذا الانحياز ولايزال ثأر مئات الآلاف ممن وقعوا تحت القتل والأسر والتهجير والتعذيب بالخوازيق يتردد في صحارينا ومدننا وقرانا.