وسام سعادة

يحتاج البلد إلى «نأي أكثر» وليس إلى «نأي أقل»، إذا ما أُريد استصلاح مناخ التسوية فيه، بالشكل الذي سلكته منذ عامين. طروح «التطبيع مع النظام السوري» لا تخدم مثل هذا الأمر، بل تخدم نقيضه المباشر.

البلد منقسم حيال المسألة السورية، كما كان منقسماً قبل ذلك حيال الوصاية السورية، ثم حيال الموقف من العلاقات اللبنانية ـ السورية في مرحلة ما بعد الوصاية. لا يمكن المكابرة على هذا الانقسام. أو مجموع الانقسامات بالأحرى. لا يمكن تسويتها بين ليلة وضحاها. استطاع البلد التعايش في مؤسساته، مع الانقسام الداخلي فيه حول المسألة السورية. شرط هذا كان تقبّل أن هناك تناقضاً مستحكماً وشاملاً بين وُجهتَي نظر، واحدة مبرّرة، بل مسوّغة، بل منخرطة في مناصرة النظام السوري، حدّ القتال إلى جانبه لأعوام متواصلة، ولا تزال، وهو انخراط بالتالي في الاحتراب السوري - السوري. وثانية، انتقلت من مواجهة المنحى الوصائي ثم الهيمني للنظام على لبنان إلى التضامن مع انتفاضة أنسجة أهلية سوريّة في حركة ثورة شاملة على النظام عام 2011، ولو أن معظم اللبنانيين الذين سلكوا نهج التضامن مع خط الثورة السورية، ثم نهج رفض التدخّل من جانب قسم من اللبنانيين حرباً في سوريا، طوّروا بعد سنوات نظرة أكثر وعياً للطبيعة المريرة للحرب السورية، وللتشوّهات التي أصابت حركة التحرر السورية وأعانت النظام عليها. الانقسام بين اللبنانيين حول المسألة السورية هو اذاً انقسام ليس فقط بين «نظام» وبين «ثورة»، إنه انقسام بين مواظب على التدخل في الحرب السورية، وبين من راكَم على موقفه المناهض للوصاية السورية على لبنان أساساً، موقفاً مؤيّداً لربيع السوريين، ثم موقفاً اكثر تفاعلاً مع كارثية الحرب السورية بحدّ ذاتها، بشكل توّاق فعلاً، ومن خلال تحسّس الذاكرة اللبنانية، إلى البحث عن شروط لسلام سوري، ظهر في الفترة الاخيرة ان من مقدّماته اللازمة الربط بين عودة اللاجئين، وإعادة الإعمار، وإعادة تأهيل التفاوض، على مستوياته كافة، حول المآل السياسي لسوريا.

في مقابل النظرة الداعية للتطبيع مع النظام السوري، من قِبل أطراف ليست مطبّعة فقط معه، بل حليفة له وثيقة، ومقاتِلة الى جانبه، هناك نظرة، متوفرة عناصرها، لكن تتطلّب بلورة منسّقة أكثر، سياسياً وإعلامياً، ترى ان لبنان الرسمي، النائي بنفسه عن الحرب السورية، ينبغي ان يكون له ايجابية الاسهام في السلام السوري، وهذا السلام السوري ينطلق من ثلاثية "عودة اللاجئين، إعادة الإعمار، والحل السياسي"، وهي ثلاثية تحديات يصعب كثيراً ان يتطبّع النظام السوري أساساً معها. هذا النظام لم يجد مشكلة في التطبّع مع حرب هو المبادر الرئيسي اليها، لكن صعوبة تطبّعه مع فكرة الانتقال الى السلام ترتقي الى رتبة استحالة، بل أكثر. النظام استطاع قمع المنتفضين عليه، ثم استطاع ضرب فصائل مسلحة انقسمت بين من حارب ضده، وبين من حارب بعضه بعضاً، ومن أفاده موضوعياً في سياق الحرب، وبدعم ايراني ثم روسي لهذا النظام. لكن شروط «الظفر» بمرحلة نهايات الحرب، او الانتقال الى ما بعدها تختلف. قمع منتفضين، او محاربة مسلحين، شيء، والتمكن من معايشة تحديات عودة اللاجئين الحرة والآمنة، وإعادة الإعمار، والحل السياسي، لها شروط مختلفة تماماً. دعوى تطبيع لبنان الرسمي مع النظام السوري تصب في إطار محاولة الالتفاف على هذه الشروط، وليس في إطار تأمين مستلزماتها. في إطار العودة الى ما قبل «ثابتة النأي» في سياسة لبنان تجاه الاقليم، وليس في إطار تقوية هذا النأي، وتحويله من تعريف بالحدود السلبية الى تعريف ايجابي له، يربط مصلحة لبنان الاقليمية بتجاوز فترة الحروب الاهلية والنصف اهلية العربية المستعرة في السنوات الاخيرة.

يحتاج البلد، في هذه اللحظة من العرقلة المتمددة لعملية التأليف الحكومي، الى وضوح في هذا المجال. يحتاج هذا الوضوح الى مسارعة الرافضين لفكرة «التطبيع مع النظام» الى ربط رفضهم هذا بالفكرة الاساسية، النأي بلبنان عن الاحتراب الاقليمي، عن أتون الحرائق المشتعلة، والرغبة في إغناء النأي إيجاباً، بأن يكون للبنان موقف داعم، مبدئياً وعملياً، لكل ما من شأنه الخروج من حقبة الحرائق العربية المشتعلة، ولكل ما من شأنه استعادة البلدان العربية التي تنوء تحت ثقل التدخلات الاجنبية، غير العربية، لقدرتها على التحكّم بمصائرها، وإعادة إنتاج تفاهماتها الداخلية. النظام السوري هو الحرب السورية. السلام السوري هو ما بعد هذا النظام. في المقابل، أنصار التطبيع مع هذا النظام، الذين هم جزء من «طبائعه» المكتسبة، يعتبرون السلام في سوريا هو الشيء الذي سيناله النظام بنتيجة ظفره في الحرب السورية. في أقل تقدير، هذه فكرة بعيدة عن تحسس معاني السلم الاهلي، وعن استيعاب شروط مرحلة عودة اللاجئين، إعادة الإعمار، الأفق السياسي. الجنرال فرانكو كان قادراً، حين ظفر بالحرب الاهلية الإسبانية، على الجمهوريين، على قيادة السلام الاهلي الإسباني بشروطه، وكانت مصلحة الاميركيين في التطبيع معه لضرورات الحرب الاهلية، رغم ارتباطه في سنيّ الحرب العالمية بهتلر وموسوليني. بشار الاسد ليس فرانكو.