&غازي دحمان&&

تسارع روسيا الى إغلاق ملف الحرب في سورية، وتسعى إلى إيصال رسالة الى كل الأطراف الإقليمية والدولية أن الحرب انتهت، ليس مهماً كيف، المهم أن في سورية دولة وحكومة شرعية وعلى الآخرين قبول هذا الأمر تماماً كما تقبل المجموعة الدولية أي حكومة وطنية في العالم وصلت إلى السلطة من طريق الانتخابات، فليس من حق أي طرف وضع اشتراطات سياسية وتحديد كيف يكون أداء السلطات الوطنية، ما دامت القضية مرتبطة بالسيادة الداخلية، وما دامت حكومة هذه الدولة لا تمارس أعمالاً غير قانونية على المستويين الإقليمي والدولي.


بيد أن روسيا تعرف حق المعرفة أن نظام الأسد لا يشبه أي حكومة منتخبة في العالم، بل هو نظام ارتكب مذابح منهجية بحق محكوميه، كما أنه لم يبق نمط من أنماط حروب الإبادة من دون أن يجربه على البيئات التي ثارت عليه، كما أنه ومنذ سنة 2011 وحتى هذا التاريخ، أسقط القانون في شكل نهائي، ولم يلجأ إلى قانون الطوارئ، على رغم قساوة هذا القانون أصلاً، بل حوّل البلاد إلى فوضى رهيبة كان الهدف منها تحفيز عناصر ميليشياته وميليشيات حلفائه على زيادة إنتاجيتهم في القتل والقمع إلى أبعد الحدود، ما دام لا قانون يحاكمهم ولا ضوابط تردعهم، وكل عنصر ميليشياوي يستطيع اتخاذ القرار وفق تقديره ومزاجيتيه.

ويؤشر حجم الدمار الكبير والعدد الهائل للقتلى والمشوّهين الى تلك الحقيقة الصلبة، لكن هذا بدوره يثبت حقيقة تسعى روسيا الى تمريرها، وهي أن هذا النظام الذي أسقط القانون عمداً لسحق المعارضة أسقط في الوقت نفسه أهليته القانونية لحكم البلاد، فالقانون ليس عباءة يتم خلعها متى ما أراد الحاكم، وهذه الحالة لا تستقيم مع مسألة إعادة تأهيله سياسياً، فيما الوضع الطبيعي أن يجري توصيفه كطرف من أطراف الصراع، التي يجب أن تحاكم على ارتكاباتها في الحرب، ولا يحق له تالياً احتكار المجال السياسي وادعاءه تمثيل الشعب ولا حتى غالبيته، ولا تحويل إجراءات الاستسلام، التي حصلت على أيدي أطراف خارجية، إلى وثائق تسويات نهائية وإعادة تأهيل نظام الأسد حاكماً على الجغرافية والديموغرافية السوريتين.

تدرك روسيا كامل المشهد وجميع التفاصيل التي شكلته، فقد عملت على صياغة الجزء الأكبر من هذا المشهد وتركيبه، وهي شريك قاتل للأسد في جميع الأرجاء السورية، وتعرف أن ملف الأسد مثقل بعشرات، إن لم يكن بمئات القرارات من المنظمات الدولية وغير الحكومية، وبالتالي فهي تواجه مهاماً تكاد تكون مستحيلة على صعيد إعادة تأهيل الأسد دولياً، بخاصة أن الأمر وصل إلى حد اندماج تلك القرارات في القوانين الوطنية والإقليمية للكثير من الدول، ولم يعد حكراً على المنظمات، ما يجعل من صعوبة تمرير تأهيل الأسد تبدو كأنها لعبة حاوي تمارسها الديبلوماسية الروسية وهي تعرف أن الجمهور المتلقي يعرف أن الأرانب التي يخرجها لافروف من كمه ليست حقيقية.

تدفع هذه الحقيقة المربكة روسيا إلى اجتراح تكتيكات وأساليب تحاول من خلالها اختراق هذا الجدار الدولي بوجه تأهيل نظام الأسد، ثم تفكيكه في مرحلة لاحقة، وتراهن على أن العالم الذي تعب من الأزمة السورية لديه استعداد كبير للتغاضي عن تفاصيل كثيرة حصلت في الحرب السورية، وبالتالي فإن هذا العالم تنقصه فقط المحفزات ليتجاوز العقبات التي تم وضعها في لحظة « ملتبسة»، وأن استمرار روسيا في الإلحاح على هذا الطلب وعدم التراجع عنه سيأتي بنتائج جيدة، فكما تراجعت القوى الدولية عن هدف إسقاط النظام، وكذلك سمحت له بإعادة سيطرته على أجزاء واسعة من سورية متغاضية عن أساليبه الرهيبة، فلا بد أنها ستقبل في النهاية تأهيل الأسد.

إضافة الى ذلك، تراهن روسيا على أسلوب قضم المواقف الدولية بهذا الخصوص، وقد جربت بنجاح هذا الأسلوب عسكرياً حيث قضمت مناطق المعارضة قطعة تلو أخرى حتى أخرجتها نهائياً من اللعبة، ويبدو أن روسيا، المبهورة بنتائج هذا الأسلوب، تعمل على ترحيله للمجال الديبلوماسي في مشروعها إعادة تأهيل الأسد، والواضح أنها تبدأ من الخواصر الرخوة للبيئة الدولية وتضغط عليها بكثافة لتحقيق هذه الغاية، مثل الدول الإقليمية، لبنان والأردن وتركيا، التي لديها مشاكل معقدة على صعيد مسألة اللاجئين السوريين، وتبدأ روسيا كذلك من قضايا ليست لها علاقة بالسياسة، بل في الغالب قضايا تقنية واقتصادية وإدارية، مثل فتح المعابر الحدودية حيث يستفيد الجميع من التجارة الخارجية والبينية، وكذلك إعادة اللاجئين إلى مناطقهم في سورية، وتخليص بلدان الإقليم التي تعاني من ضغوط على الخدمات والموارد، ما يتسبب بأزمات داخلية في هذه البلدان.

وضمن هذا التكتيك، تسعى روسيا إلى زعزعة الموقف الغربي وإضعافه، من خلال تحقيق اختراقات في مواقف بعض دوله، ولا بأس إن حصل ذلك تحت عناوين غير سياسية، مثل استمالة فرنسا إلى تقديم مساعدات إنسانية، أو النقاش مع ألمانيا حول أفكار معينة بخصوص عودة اللاجئين، ثم يتطوّر الأمر إلى أن مثل هذه الإجراءات تستدعي فتح قنوات تنسيق وتواصل مع نظام الأسد، لأغراض تقنية بحتة ومن أجل إدارة هذه العمليات، وذلك يستدعي بالطبع إعادة تشغيل أجزاء من سفارات هذه الدول، بمستوى أقل من سفير، قائم بالأعمال مثلاً أو قنصل، للإشراف على تنفيذ عملية إعادة بعض اللاجئين، وتبادل المعلومات في شأن بعضهم وهكذا. ولتدعيم هذا التوجه، تصر روسيا على أنه لا يوجد محتوى قانوني، ضمن حزمة الادعاءات على نظام الأسد، يمنع إعادة تأهيل النظام، فما دام مجلس الأمن لم يصدر قراراً واحداً، او بالأحرى لم تسمح روسيا بتمرير قرار واحد يثبت ارتكاب الأسد جرائم الحرب، وما دام مجلس الأمن هو المرجعية القانونية والسياسية الأعلى بين المنظمات الدولية، فكل ما عداه ليست له قيمة.

غير أن أخطر تكتيك تقوم به روسيا، هو تحريف رواية الحرب نفسها، وفي الوثائق التي قدمتها لدول الجوار كـأفكار للنقاش معها حول إعادة اللاجئين، مرّرت روسيا شرطاً غريباً، وهو ضرورة تقديم المعارضة السورية ضمانات بعدم تهديد حياة اللاجئين العائدين، فالواضح أن روسيا تريد تثبيت فكرة أن المعارضة هي السبب في تهجير السوريين، ثم أين هي المعارضة في حمص ودرعا والغوطة حتى يمكنها القيام بذلك؟

لا شك أن روسيا ستعمل بكل طاقتها من أجل إعادة تأهيل نظام الأسد، وستسعى إلى تفكيك مواقف الدول والأطراف بمختلف الطرق والوسائل، لكن في المقابل، يوجد موقف لا يزال صلباً حتى اللحظة، ولا يبدو أنه قابل للتطويع في المدى المنظور، ولأن روسيا مستعجلة في قطف ثمار تدخلها في سورية، فقد يستدعي الأمر بحثها عن بدائل لخطة تأهيل الأسد، وهنا مكمن رهان الغرب على التشبث بمواقفه.

&