وحيد عبد المجيد

تحظى روسيا باهتمام خاص في استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أُعلنت في 18 ديسمبر الماضي.

فهي، إلى كونها تحدياً رئيسياً، تعد قوة تحريفية، أي تحاول تقويض القواعد التي تحكم النظام العالمي من وجهة نظر واشنطن، وتُهدد دور الولايات المتحدة في هذا النظام، وتسعى إلى تقويض أمنها وازدهارها، وتحاول إقامة عالم على أسس تناقض القيم الأميركية.

كما يشمل التهديد الروسي، وفق الاستراتيجية الأميركية الجديدة، نقل الصراع إلى الفضاء الإلكتروني بطرق جديدة، في إطار «الحرب السيبرانية». وفي نص هذه الاستراتيجية اتهام محدد لموسكو بأنها «تلجأ إلى أساليب حديثة في التخريب، وتشن حملات معلوماتية عبر الإنترنت للتأثير في الرأي العام العالمي، وتعتمد في هذه الحملات على حسابات إلكترونية وهمية، ووسائل إعلام ممولة رسمياً، ووسطاء ومستخدمين مأجورين لمواقع التواصل الاجتماعي».

وهذه لغة جديدة مقارنةً بما ورد في نصوص استراتيجيات سابقة.

لغة تبدو تصعيدية بخلاف ما كان متوقعاً خلال حملة الرئيس ترامب الانتخابية، وبعيد فوزه في الانتخابات.

لذلك أثارت هذه الاستراتيجية رد فعل روسياً غاضباً.

غير أن التصعيد اللفظي ليس مصحوباً بسياسات وآليات تشي بصدام يتجاوز ما يؤدي إليه تعارض المصالح في بعض المناطق، وتجاه عدد من القضايا.

وحتى فيما يتعلق بكوريا الشمالية، التي شهد عام ترامب الأول في البيت الأبيض تصعيداً أميركياً شديداً فيها، لا تتضمن الاستراتيجية الجديدة ما يدل على اتجاه إلى خطوات عسكرية.

لجأ كاتبو الاستراتيجية إلى شيء من الغموض، الذي قد يكون بناءً في مثل هذه الحالة، عبر الاكتفاء بتقرير أنه لا يزال هناك عمل لابد من القيام به للتأكد من أن النظام الحاكم في كوريا الشمالية لن يهدد العالم.

التصعيد في لغة الاستراتيجية الجديدة، إذن، يشبه قنبلة صوت غير مزعجة.

ربما يكون الهدف منه التنبيه إلى أن واشنطن يقظة وحريصة على حماية مصالحها في لحظة توسع للنفوذ الروسي، وخاصة في الشرق الأوسط.

لكن الاستراتيجية لا تخلو من إشارات إلى أهمية التعاون مع روسيا.

وقد تحدث الرئيس ترامب، في خطابه بمناسبة إطلاقها، عن فوائد التعاون مع روسيا في مجال مكافحة الإرهاب، وضرب مثلاً بالمعلومات التي قدمتها الاستخبارات الأميركية «سى آي إيه» بشأن هجوم إرهابي على كاتدرائية في سان بطرسبرج.

لذا يبدو الغضب الروسي مبالِغاً بدرجة أو أخرى.

الرئيس بوتين اعتبرها في كلمته أمام مجلس قيادة وزارة الدفاع في 22 ديسمبر، هجومية وعدوانية.

والناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف استخدم تعبيراً ماركسياً مهجوراً يعود إلى العصر السوفييتي، ومستمداً من الميراث اللينيني، إذ اعتبرها استراتيجية «ذات طابع إمبريالي».لكن أهم ما أغفله معدو الاستراتيجية الأميركية في اهتمامهم بروسيا هو إغفال المقارنة بين واشنطن وموسكو في مجال الإنفاق العسكري وجدواه.

فقد قرر ترامب زيادة ميزانية الدفاع عام 2018 إلى ما يقرب من 700 مليار دولار (692.1 مليار)، بينما خلت الاستراتيجية الجديدة من أي دراسة دقيقة لجدوى هذا الإنفاق الهائل.

لم ينتبه الاستراتيجيون الأميركيون حتى الآن إلى أهمية دراسة التجربة الروسية المختلفة جذرياً، والتي تثبت إمكانية تحقيق نتائج أفضل اعتماداً على إنفاق أقل.

فقد حققت روسيا طفرة في مستوى نفوذها الدولي في الأعوام الأخيرة، رغم خفض إنفاقها العسكري في الفترة نفسها.

ولذا تبدو المقارنة بين أميركا وروسيا في هذا المجال أكثر من مثيرة.

تواصل روسيا تقليص إنفاقها العسكري رغم انخراط جزء من قواتها في الحرب السورية.

وتمكنت من توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، كما في جوارها الاستراتيجي في شرق أوروبا، ووسط آسيا، رغم أن ميزانيتها العسكرية لا تتجاوز 42.5 مليار دولار، أي نحو 6.5% فقط من ميزانية الولايات المتحدة.

ودلالة هذه المقارنة أن سياسة روسيا الدفاعية أكثر كفاءة وفاعلية، وأن القائمين عليها أكثر دراية بطبيعة التحديات العسكرية الراهنة التي تتطلب قوات أقل عدداً، وأخف حركة، وأكثر قدرة على خوض معارك غير نظامية، وتقل فيها احتمالات الحروب واسعة النطاق التي تحتاج إلى ترسانات هائلة.

لذلك تتفوق روسيا في القدرة على تخصيص النفقات العسكرية بطريقة تؤدي إلى تحقيق الأهداف بكلفة أقل.

وعندما ينتبه الأميركيون إلى التفوق الروسي في هذا المجال، ربما تختلف استراتيجيتهم للأمن القومي في قادم الأيام عن النمط الذي بات معتاداً لها منذ سنوات.‏‭