هادي اليامي

الآن تدفع طهران ثمن سياساتها التدميرية التي تتبعها في عدد من دول المنطقة، وتتذوق طعم الموت الذي أذاقته لآلاف المدنيين العزل والأطفال الأبرياء

استشرت المظاهرات في مشهد وغيرها من المدن الإيرانية كانتشار النار في الهشيم، حيث بلغت 60 مدينة، ورددت جموع الشعب المغلوب على أمره هتافات معادية للمرشد الأعلى على خامنئي، ورئيس النظام حسن روحاني، الذي وصفته بـ«الدمية». ومع أن المظاهرات الاحتجاجية التي تطالب بتحسين ظروف الحياة ووقف التدخل في شؤون الدول الأخرى ليست بالأمر الجديد، فقد اعتاد عليها الإيرانيون، كلما ضاقت بهم الحال واستمر تدهور ظروفهم المعيشية، إلا أن الجديد في ما يحدث الآن هو أن المظاهرات انطلقت من معقل النظام في قم ومشهد، اللتين يعدهما نظام الملالي مدينتيه المقدستين، فإن كانت تلك هي مشاعر السكان في تلك المدينتين، فإنها بلا شك أكبر وأعظم في ما عداهما. كما أن اللافت للنظر هو أن المظاهرات التي بدأت احتجاجا على الغلاء وتدهور الأوضاع المعيشية سرعان ما اكتسبت طابعا سياسيا، وهتف المتظاهرون بـ«الموت لخامنئي»، بدلا عن الموت لأميركا، شعارهم القديم، وهو ما يظهر حجم الغضب الشعبي الذي يغلي في صدور الإيرانيين، ومقدار الرفض لسياسات المرشد، التي لا تجد من يؤيدها غير المنتفعين منها.
المناداة بالموت لخامنئي كانت مفاجأة أذهلت سدنة النظام وأثارت غضبهم، لأنها ببساطة تنفي كافة مزاعم القدسية الزائفة التي يتفاخر بها رأس النظام، كما تسحب الهتافات المناوئة للرئيس روحاني آخر أوراق الشرعية المزعومة للحكومة التي تتشدق بالاعتدال، وما هي إلا شكل آخر من أشكال التطرف والعنف. ومن الإشارات اللافتة التي حملتها المظاهرات هي أنها ساوت بين المرشد والرئيس، في إشارة واضحة إلى أنه لا خط يفصل بين المتشددين والإصلاحيين المزعومين، فكلاهما سواء وشركاء في قهر الشعب، وتخصيص موارده الضخمة لإثارة الأزمات في دول الجوار، وتصدير الأسلحة وأدوات الدمار، دون أن يعود ذلك على الشعب المقهور بأي فائدة ملموسة، بل إن العكس من ذلك هو الذي حدث، حيث زادت العزلة الدولية، وتوالت العقوبات الدولية، وهو ما انعكس بدوره على الأوضاع الاقتصادية التي تشكو أصلا من التراجع والتدهور.
الآن تدفع طهران ثمن سياساتها التدميرية التي تتبعها في عدد من دول المنطقة، وتتذوق طعم الموت الذي أذاقته لآلاف المدنيين العزل والأطفال الأبرياء، فالسبب الرئيسي في ثورة الشعب ضد نظامها هو أنه أنفق معظم موارد الدولة كي يصدر الموت لجيرانه، وبذل عشرات المليارات من الدولارات لتسليح عملائه أمثال حزب الله اللبناني وميليشيات الحشد الشعبي العراقية، وجماعة الحوثيين الانقلابية في اليمن، وبالمقابل أهملت الحكومة شعبها، وعطَّلت مشاريع التنمية، ولم تلق بالا لمواطنيها الذين اضطرت الظروف القاسية قسما كبيرا منهم إلى العيش في المقابر واتخاذها سكنا لهم، وهم الذي كانوا ذات يوم قريب يتباهون بأنهم من أغنى شعوب المنطقة وأكثرها رفاهية.
إيران التي تتشدق بتطور صناعاتها العسكرية، واستمرارها في تطوير أنظمة صواريخها الباليستية، خسرت الكثير من مقوماتها الاقتصادية منذ مجيء الخمينيين إلى سدة الحكم، حيث تراجعت الصناعات المدنية واندثرت، وتهاوت المؤسسات الاقتصادية، ولم تعد البلاد تعتمد في دخلها الاقتصادي سوى على تصدير النفط الذي ما إن تراجعت أسعاره العالمية حتى دخلت البلاد في أزمات اقتصادية متتالية، زادتها حدة العقوبات الدولية التي فرضها المجتمع الدولي على النظام المارق، إضافة إلى ذلك فإن سيطرة الحرس الثوري على معظم المؤسسات الاقتصادية تسببت هي الأخرى في تدهور الأوضاع، لاسيما مع ارتفاع معدلات الفساد المالي الذي تورط فيه قادة الحرس.
ومع أن مظاهرات عام 2009 الصاخبة مثَّلت مفاجأة غير منتظرة لأركان النظام، رغم أن الأوضاع الاقتصادية لم تكن بالسوء الذي هي عليه اليوم، إلا أن ما تشهده إيران في الوقت الحالي متوقع، بل إن الاحتجاجات مرشحة بقوة كي تمضي إلى ما هو أبعد من مجرد الاحتجاج والتظاهر. ولا يبدو أن الإيرانيين الذين بلغ بهم اليأس كل مبلغ سوف يصيبهم الخوف من تهديدات المتشددين الذين لوحوا باستخدام القبضة الحديدية. لاسيما أن الأوضاع الاقتصادية لم تكن السبب الوحيد لتفجر براكين الغضب الشعبي، فالإيرانيون يشكون في الأساس من تزايد القهر الذي يمارسه المتشددون، ومصادرة كافة أنواع الحريات، وتبدو هذه الحقيقة واضحة في الشعارات التي رفعها المتظاهرون والتي وصفوا فيها خامنئي بالديكتاتور وطالبوا ببسط الحريات.
ربما لا تستمر المظاهرات الاحتجاجية حتى إسقاط النظام، لكنها حتما تمثل إشارات واضحة على تدني شعبيته. وحتى إن تعرض المتظاهرون إلى القمع وأُسكتت ثورتهم في مهدها، فإن الخسائر ستكون فادحة، وفي مقدمتها أن ما حدث يمنح المجتمع الدولي مبررا كافيا لفرض المزيد من العقوبات على النظام، وتشديد الخناق عليه، وهو ما ألمح إليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي هدد بفرض عقوبات اقتصادية فورية إذا لجأ الحرس الثوري إلى قمع المتظاهرين بالقوة. كما أن النظام الذي كان يتباهى بـ «انتصاراته» في العراق وسورية ولبنان، فوجئ بأن أولى مظاهر الرفض لما حدث أتت من داخل بيته، وأن غالبية الشعب ترفض تدخلاته السالبة في شؤون دول المنطقة، وهو ما سبب له حرجا بالغا، ومثَّل عنصر إدانة داخلية له.
كعادته، لم يجتهد نظام طهران في البحث عن الأسباب الحقيقية للثورة الشعبية ضده، وسارع إلى الإعلان عن تورط «أياد خارجية»، ملقيا كافة إخفاقاته وسلبياته وسوءاته على مشجب نظرية المؤامرة، الذي ناء من كثرة ما اعتمد عليه الملالي، ولجأ قادة الحرس الثوري إلى التلويح باستخدام القبضة الحديدية ضد المتظاهرين، وهو الأسلوب الذي اعتمدوا عليه كثيرا في إطفاء غضب شعبهم، دون أن يدركوا أنه لا يؤدي سوى لتهدئة الثورة، التي لا تلبث أن تندلع مرة أخرى، وبشكل أكثر شراسة وحدة. وإن كان للنظام حكماء ينصحونه فإن عليهم التأكيد على اهترائه وهشاشته وتراجع الحاضنة الشعبية له.