سليمان جودة

 يرحم الله الدكتور عبد الله محارب، المدير السابق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الشهيرة بأنها «يونيسكو العرب» مرة؛ وبأنها «الأليسكو» مرة ثانية.
لقد عرفت الرجل وقت أن كان مديراً للمنظمة، لسنوات، وعرفت فيه إدراكاً خاصاً للقضية الأهم، التي على منظمته أن تضعها على رأس أولوياتها في العمل... إنها قضية التعليم لدى العرب، ولا قضية غيرها.

وحين كان يحدثني كلما التقينا عن بعض تفاصيل جهده، وجهد المنظمة في هذا الاتجاه، كنت أشعر بأنه مسكون بالموضوع، بقدر ما هو مشتغل به، ومشغول بأبعاده، وراغب في ألا يترك موقعه إلا وقد حقق بعضاً مما كان يحمله من طموح لمستوى التعليم بيننا.
ورغم أن اهتمام الأليسكو ينصرف، بحكم قانون نشأتها، إلى قضايا التربية والثقافة والعلوم معاً، إلا أن التعليم بوصفه مرادفاً للتربية، كان دائماً هو الهمّ الأكبر، لكل الذين جاءوا إلى موقع المدير فيها، ولمَ لا؛ وهو الأساس الذي قامت وتقوم عليه كل نهضة، في كل دولة خطت خطوات إلى الأمام في العالم من حولنا؟! فالبحث عن سرّ في الدول الناهضة يقف وراء نهضتها، لا يؤدي في الحقيقة إلى العثور على أي سر، بالمعنى الدارج للكلمة... فلم يحدث أن امتلكت ماليزيا، مثلاً، سراً خاصاً أتاح لها مكانتها الحالية بين الدول! إن كل ما امتلكته في أيام رئيس وزرائها الأسبق مهاتير محمد، لم يكن سوى عناية خاصة بقضية تعليم مواطنيها.
وهو، كما ترى، ليس سراً، لأنه لا ماليزيا، ولا غيرها من الدول التي سلكت طريقها نفسه، تُخفي عن العالم ماذا فعلت؛ بل العكس هو الصحيح، إنها تعلنه دائماً، ولا تخفيه... وكلما ظهر مهاتير في مناسبة عامة، كان السؤال الأول الذي يجده مطروحاً أمامه، هو عما فعله بالضبط ليصل ببلاده إلى ما وصل بها إليه. ومن كثرة ما أجاب الرجل عن السؤال، ومن كثرة تكراره الإجابة نفسها، تخيلته وقد خط كلمة «التعليم» على ورقة في حجم كف اليد، واحتفظ بها في جيبه، ليرفعها على لافتة فوق مائدته، في كل مناسبة من تلك المناسبات التي يكون عليه فيها أن يشرح من جديد ما سبق أن شرحه، وأن يعيد ويزيد فيما سبق أن قاله بكل وضوح ممكن.
وعندما قرأت أن الدكتور سعود هلال الحربي أدى اليمين، مديراً جديداً لـ«يونيسكو العرب»، أمام أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، التي تتبعها الأليسكو، لاحظت أن الأمين العام تعهد للمدير الجديد، بدعمه في عمله إلى أقصى حد... وبالتالي، فلا عذر للدكتور الحربي إذا هو لم ينتهز فرصة وجود أمين عام للجامعة داعم له طول الوقت، ومدرك لحيوية القضية الأم التي على المدير الجديد أن يحرص على ألا تغيب عن عينيه.
سوف يكون على مدير «يونيسكو العرب» الجديد أن يمنح اهتماماً بالطبع لقضايا العلوم، وشؤون الثقافة، فيما بين العرب بعضهم بعضاً، غير أنه بالتأكيد يعرف أن مرجع كل مشكلة سيواجهها على هذين المستويين، سيكون إلى التعليم تحديداً، وإلى أنه ليس متاحاً كما يجب أن يتاح في الغالبية من العواصم العربية، ثم إلى أن الحال لو استقامت في تعليمنا، لاستقامت فيما سواه دون شك.
وقد فكرتُ في نوع الدعم الذي من الممكن أن يبذله الأمين العام، لهذه المنظمة الفرع، التي تتبعه، وتتخذ من تونس مقراً لها... هل هو دعم مادي فقط؟! يجوز... وهو دعم لا غنى عنه، غير أن التجربة في العالم تقول إن التعليم ليس مالاً فحسب، ولكنه رؤية تسبق هذا المال وتقوده إلى ما تريده.
وتساءلتُ بيني وبين نفسي عما يمكن أن يمنع السيد أبو الغيط من أن يعمل في هذه النقطة بالذات، بالطريقة التي قرر الاتحاد الأوروبي أن يتعامل بها مع بولندا، بصفتها دولة من بين أعضائه، وبأن عليها أن تلتزم بما تقتضيه عضويتها فيه.
فالحكومة في العاصمة البولندية وارسو أقرت على مدى عام مضى 13 قانوناً جديداً، من شأن العمل بها أن ينال من استقلال القضاء في البلاد، وأن يؤثر بالسلب على الفصل المفترض بين السلطات. ولأن الاتحاد الذي تكتسب بولندا عضويته إلى جانب 27 دولة أخرى، حريص على تحقيق مستوى معين من الحياة للمواطنين في الدول الأعضاء، ولأنه ليس مستعداً للتفريط في هذا المستوى، فإنه نبه البولنديين إلى أن الإصرار على العمل بهذه القوانين الجديدة سوف يضعهم تحت عقوبات محددة!!
وعقدت المفوضية الأوروبية في بروكسل اجتماعاً تنظر فيه العقوبات التي تقررها المادة السابعة من معاهدة الاتحاد، في مثل هذه الحالة البولندية، ثم دار كلام قوي عن أن العقوبة يمكن أن تصل إلى حد منع بولندا من التصويت عند عرض أي قضية للرأي على مستوى الأعضاء.
وهكذا وجدت وارسو أن عدم التزامها بمقتضيات العضوية، التي من بينها البعد عن النيل من استقلال القضاء، أو تهديد الفصل بين السلطات على أرضها، يمكن أن يؤدي بها إلى أن يكون وجودها في الاتحاد الأوروبي وجوداً شكلياً بلا مضمون.
وستراجع نفسها طبعاً، لأن إتاحة مستوى معين من الحياة لمواطني أوروبا، مسألة لا يتهاون فيها الاتحاد مع أعضائه، ولا يقبل فيها الفصال.
وبما أن الاتحاد تجمع إقليمي، مثله مثل الجامعة العربية، من حيث الشكل على الأقل، فلقد راودني السؤال عما إذا كان أمينها العام قادراً على أن يطلب من الدول الأعضاء فيها الالتزام بتوفير مستوى معلوم من التعليم لمواطنيها، وإلا تعرضت غير الملتزمة منها لعقوبات من نوع ما يتجه الاتحاد الأوروبي إلى فرضه على بولندا، بصفتها دولة عضواً فيه؟!
وإذا كانت الجامعة بصدد التفكير في تعديل ميثاقها، اليوم، أو غداً، فما المانع من أن يوضع أمر كهذا في ميثاقها المُعدل؟! إن القصد، عندئذ، لن يكون استهداف دولة عربية بالعقوبات، دون غيرها من الدول، ولكنه سيكون نوعاً من لفت الانتباه للحكومة فيها إلى أن التعليم في مدارسها وجامعاتها لا بد أن يلتزم بمعيار كذا، وبمقياس كيت، من أجل مستقبلها، ومستقبل أبنائها، وليس من أجل شيء آخر. فإذا فاتها أن تلتفت، فسوف تتكفل الجامعة بذلك، وسوف تكون أداتها في إنجاز هذه المهمة هي منظمتها للتربية والثقافة والعلوم في تونس.
القضية تستحق التفكير فيها، بهذا الأسلوب، أو بغيره، في مكتب الأمين العام بالقاهرة مرة؛ وفي مكتب المنظمة الفرع بتونس مرة أخرى... لأن ترك كل حكومة عربية وشأنها، في ملف التعليم على وجه التحديد، قد أدى إلى ما أدى إليه أمام أعيننا، وليس من المتوقع أن تتحقق حصيلة مختلفة في المستقبل، إذا كانت الحكومات نفسها تقوم بالشيء نفسه.
مجيء مدير جديد للأليسكو، يجوز أن يُرتب طرحاً جديداً للقضية... واستعداد الأمين العام للدعم المفتوح، يليق به أن يكون دعماً للمستقبل الذي لا يذهب إليه إلا المتعلمون.
من الدكتور محارب في السابق، إلى الدكتور حربي في الحاضر، تجد «يونيسكو العرب» نفسها مدعوة إلى العيش في حالة من حالات «الحرب» على الأمية بيننا، بمعناها العصري، لا مجرد معناها الأبجدي.