كامل الخطي

ليس في مقدور أي باحث أو متابع أن ينكر الدور الفعال لرجال الدين في الثورة على نظام الشاه، ولكن الإقرار بفعالية دورهم في الثورة قد تحول عند الباحثين والكتاب الموالين لنظام حكم رجال الدين إلى محو ممنهج لتاريخ المعارضة المدنية اللادينية التي أسهمت بكل أطيافها في تمهيد الطريق نحو الإطاحة بنظام الشاه، وهذا المحو الممنهج كان قد بدأ في مدة لا تتجاوز ثلاثة أعوام بعد تربع رجال الدين على سدة الحكم في إيران. تفوق رجال الدين، وعلى رأسهم الخميني، على رفاقهم من الفصائل الأخرى، ونجح الإسلاميون في الإمساك بزمام الثورة، وإدارة دفتها في وقت الذروة، ما أدى إلى تراجع دور باقي الفصائل المشاركة، وكان لشخصية الخميني أثر بالغ في نجاح رجال الدين، وفي ظهورهم كأصحاب الثورة دون منافس.

لا يزال مشهد نور الدين كيانوري أمين عام حزب تودة (الحزب الشيوعي الإيراني)، وهو يتلو اعترافه بالتجسس على وطنه إيران لصالح الاتحاد السوفيتي عبر شاشة التلفزيون الرسمي الإيراني، عالقا في ذاكرة من شهد الحدث. كان حزب تودة من الفصائل التي لم تهادن الشاه محمد رضا بهلوي منذ توليه العرش عقب تنحية والده الشاه رضا بهلوي، وبمعارضة الحزب الدائمة لنظام الشاه، فقد تمكن من تجنيد قاعدة صلبة داخل الأوساط العمالية والنقابية، واخترق القوات المسلحة الإيرانية وأسس فيها منظمة حزبية بلغ عدد أعضائها مئات من العسكريين من رتبة عقيد، نزولاً إلى رتبة جندي. واستطاع بذلك أن يلعب دور المحفز الفعال في تحريك الشارع وتنظيم الإضرابات والاحتجاجات في مواجهة النظام وأجهزته، وقد نجا الحزب من ضربات منهجية عديدة أثناء عهد الشاه، كان آخرها عام ١٩٦٦ عندما صدرت أحكام بإعدام عدد من كوادره القيادية، ما أثار حملة غضب واحتجاج وموجة من الإضراب عن الطعام على مستوى دولي، ما شكل ضغطا كبيرا على الشاه وحكومته، وأدى هذا الضغط الكبير إلى تخفيف الأحكام من الإعدام إلى السجن المؤبد. منذ ذلك الحين، أصبح الحزب أكثر فصائل المعارضة إزعاجاً لنظام الشاه، ومع الحزب كانت هناك فصائل إيرانية معارضة لنظام الشاه، ليس بينها فصيل يمكن وصفه بـ«الإسلامي الخالص» بما في ذلك منظمة مجاهدي خلق التي كانت تصنف باعتبارها من «يسار الإسلام». لعبت هذه المنظمات والفصائل الدور الأهم في تمهيد الطريق نحو الثورة على الشاه واقتلاع نظامه. والمادة العلمية-التاريخية التي تؤكد الدور الذي لعبه حزب تودة وباقي التيارات اليسارية والقومية الإيرانية، متوافرة لمن يريد من الباحثين والمهتمين، والحصول عليها، لا يتطلب أي مجهود خارق للعادة.


وصل رجال الدين لسدة الحكم في إيران، لأنهم تفوقوا على الآباء الشرعيين للثورة في اللحظة الحاسمة، في مشهد يشبه مشهد تسجيل هدف الترجيح مع انطلاق صافرة نهاية المباراة! لم يكن رجال الدين بمفردهم في البدايات، بل كان آباء الثورة معهم في المشهد التالي لمشهد سقوط نظام الشاه؛ فأول حكومة مؤقتة شُكلت بعد الإطاحة بنظام الشاه، كان على رأسها مهدي بازركان، وهو موصوف بكونه إسلاميا معتدلا، ومدافعا صلبا عن الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والقيم التحررية الحديثة، وله تاريخ حافل في معارضة نظام الشاه، ودخل معتقلات الشاه أكثر من مرة بسبب نشاطه السياسي المعارض، كما أسهم في تأسيس «حركة التحرير الإيرانية» في عهد الشاه، وهي حركة عُرفت بمعاداتها لنظام الحكم الملكي المطلق على أسس إصلاحية، وهذه الحركة كانت ترى أن نظام الشاه شرعي ولا يوجد موجبات تتطلب الدعوة للإطاحة به، ولكن «حركة التحرير الإيرانية» كانت ترى أيضاً، ضرورة إصلاح النظام بتقييد صلاحيات الشاه المطلقة عبر المشاركة السياسية في المؤسسات الدستورية المنتخبة بنزاهة وحرية. وكان أول رئيس منتخب للجمهورية بعد الإطاحة بالشاه، هو أبو الحسن بني صدر، وهو إسلامي معتدل متخرج في جامعة السوربون، وله هو الآخر تاريخ حافل في مناهضة نظام الشاه، دفع ثمنه بالاعتقال مرات عديدة.


بالنسبة لبازركان، فقد رفض مجلس الخبراء في عام ١٩٨٥ طلبه الترشح لرئاسة الجمهورية، وذلك على خلفية معارضته اقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز من فيها رهائن، ومعارضته السياسات القمعية التي انتهجها الحزب الجمهوري الإسلامي برئاسة محمد حسين بهشتي، ومعارضته أيضاً، استمرار الحرب العراقية-الإيرانية. انتهت حياة مهدي بازركان غريباً في أحد مستشفيات زيورخ.. أما أبو الحسن بني صدر، فقد هرب من إيران على متن طائرة تابعة لسلاح الجو الإيراني في عام ١٩٨١ ولم يمر على انتخابه رئيساً للجمهورية عام ونصف. استُقبل بني صدر في فرنسا ومُنح حق اللجوء السياسي بشرط امتناعه عن القيام بأنشطة سياسية معارضة لنظام الجمهورية الإسلامية، واستمر هذا المنع إلى أن أخلت فرنسا سفارتها في طهران، وهو الآن يعيش في منفاه في فرنسا تحت حراسة مشددة من قبل الشرطة الفرنسية، فحياته تحت تهديد النظام الإيراني، على الدوام.

بالعودة إلى حزب تودة ومصيره الذي آل إليه على يد النظام الذي كان الفاعل الأكبر في إقامته على أشلاء نظام الشاه، فقد ثبت في تقرير ممثل الأمم المتحدة لحقوق الإنسان جينالدي بول، بعد زيارته السجن الإيراني الذي كان نور الدين كيانوري نزيلا فيه حوالى عام ١٩٨٨، أن كيانوري وزوجته قد أدليا باعترافات زائفة تحت التعذيب الوحشي الذي نتجت عنه عاهات بدنية مستديمة سجلها جينالدي بول، ومنها أن مريم فيروز «زوجة نور الدين كيانوري» فقدت السمع وتعاني من صعوبات في تناول الطعام وفي الجلوس نتيجة تعرضها إلى التعذيب في معتقلها، وأن زوجها قد كُسرت إحدى ذراعيه أثناء التحقيق معه، وعولجت بطريقة سيئة للغاية ما جعله يحمل عاهة دائمة حتى موته عام ١٩٩٩؛ سُجن كيانوري من ١٩٨٣ حتى منتصف التسعينات، ووضع رهن الاعتقال المنزلي بعد خروجه من السجن. وقد كتب رسالة مفتوحة لمرشد الجمهورية يشرح فيها كل صنوف التعذيب التي لاقاها في السجن هو وزوجته. أما زوجته التي أطلق سراحها عام ١٩٩٤، فقد وضعت هي الأخرى رهن الاعتقال المنزلي لسنتين أخريين، ثم سلمت -بسبب عجزها- إلى ابنتها كوصية عليها إلى حين مماتها عام ٢٠٠٨.

لا ينطبق القول المشهور «الثورة كالقطة تأكل أولادها» على الحالة الإيرانية؛ لأن حركة التصفيات السياسية التي شهدتها إيران الثورة، لم تكن حركة تصفيات بين رفاق طيف واحد، وإنما هي قيام طيف واحد بعمل منهجي ضخم صفى به خصومه، الحقيقي منهم، والمحتمل، حتى بقي وحده يرسم المشهد دون معارضة.

الخلاصة، هي أن العمل الثوري لم يخرج من مدارس العلوم الدينية، ولكن رجال الدين ركبوا موجته في الوقت المناسب وتمكنوا من الإمساك بزمام ثورة الشعب الإيراني بعد أن أخذوا من تجربة الدكتور محمد مصدق العبرة والدرس، فالدكتور مصدق قد تصلب في مفاوضاته مع البريطانيين والأمريكيين حول مسألة تأميم صناعة النفط الإيرانية، وكتب بتصلبه ذاك شهادة وفاته، إذ إن تصلبه قد عنى حينها أنه تهديد حقيقي للمصالح البريطانية-الأمريكية في إيران، لذلك أطيح به من رئاسة الحكومة بانقلاب تمت هندسته في جهازي (إم آي سيكس) و(سي آي ايه) عام ١٩٥٣.

استوعب الخميني هذا الدرس جيداً، لذلك فاوض إدارة الرئيس جيمي كارتر على عودته سالماً إلى إيران على أن يقوم بحماية المصالح الأمريكية في البلاد. في التقرير الذي أعده الصحفي الإيراني كامبيز فتاحي مصحوباً بعدد من الصحفيين الاستقصائيين (تايلور كيت براون، وجيسيكا لوسنهوب، وبيل مكينا، ومات موريسون) لصالح قسم الخدمة الفارسية في هيئة الإذاعة البريطانية (نُشرت النسخة الإنجليزية من التقرير في ٣ يونيو ٢٠١٦)، رصد معدو التقرير الاتصالات التي قام بها الخميني مع إدارة الرئيس كارتر على مدى الأسبوعين اللذين سبقا عودة الخميني إلى طهران، وكذلك الاجتماعات الثنائية التي جمعت بين إبراهيم يزدي (طبيب إيراني-أمريكي كان يقيم في مدينة هيوستن بولاية تكساس، وارتبط بعلاقات مع مسؤولين في الإدارة الأمريكية عبر صلته بضابط الاستخبارات الأمريكي ريتشارد كوتام الذي أصبح واحدا من الأكاديميين الأمريكيين الذين عملوا ضد نظام الشاه)، كان إبراهيم يزدي حينذاك هو الساعد الأيمن للخميني أثناء مكوثه في ضاحية نوفل لوشاتو الباريسية، وبين وارن زيمرمان المستشار السياسي للسفارة الأمريكية في باريس. التقرير المشار إليه مهم للغاية من بدايته إلى آخر حرف منه، إذ درس معدو التقرير الوثائق والمستندات السرية التي أفرجت عنها الإدارة الأمريكية بعد مضي الفترة القانونية اللازمة. من أخطر وأهم ما جاء في التقرير المذكور أن الأمريكيين مرروا معلومات في غاية الخطورة إلى الخميني عبر قناة زيمرمان-يزدي، من هذه المعلومات: أنه في ٩ نوفمبر ١٩٧٨، أرسل السفير الأمريكي في طهران، ويليام سوليفان، برقية إلى واشنطن قال فيها إن نظام الشاه محكوم عليه بالفشل، وإن على واشنطن العمل على إخراج الشاه وكبار جنرالاته من إيران، ثم العمل على صياغة اتفاق بين الضباط الأقل رتبة وبين الخميني. في البدء، أخذت هذه البرقية الرئيس كارتر على حين غرة، وتسببت في توتير علاقة السفير سوليفان بالرئيس. خصوصاً أن مستشار الرئيس للأمن القومي حينذاك، زبيغينو بريزنسكي، كان من داعمي الشاه الأقوياء في البيت الأبيض. سرعان ما تلاشت صدمة رأي السفير سوليفان، وبدأ الرئيس كارتر إعادة صياغة موقفه تجاه الوضع في إيران، وتحت تأثير كم هائل من التقارير الواردة من إيران التي تقول إن هناك انقلابا عسكريا وشيك الحدوث على حكومة شاهبور بختيار، استدعى الرئيس كارتر في الثالث من يناير ١٩٧٩، ثلاثة من كبار مستشاريه. بعد جلسة نقاش مختصرة، قرروا أن يطلبوا من الشاه مغادرة إيران تحت عذر قضاء إجازة في ولاية كاليفورنيا. وقد ورد في محضر الاجتماع أن الرئيس كارتر قال إن خروج إيران خارج المحور الأمريكي، أمر يجب النظر إليه باعتباره نكسة للسياسة الخارجية الأمريكية. في اليوم ذاته، أوفد الرئيس كارتر، الجنرال روبرت هايسر (نائب قائد القوات المسلحة الأمريكية في قارة أوروبا)، إلى طهران ليخبر كبار جنرالات النظام بضرورة الهدوء وألا يبادروا إلى تنظيم انقلاب عسكري على حكومة شاهبور بختيار. يكشف التقرير أيضاً، أن الخميني أكد للأمريكيين أنه سيعمل على حماية مصالحهم وسيحرص على سلامة المواطنين الأمريكيين الموجودين في الأراضي الإيرانية، وتعهد الخميني للأمريكيين بأنه لن يعمل على تصدير الثورة، ولن يعادي الأنظمة العربية المجاورة كالسعودية والعراق والكويت. كما قام الخميني بتطمين الأمريكيين في ما يخص تدفق الإمدادات النفطية، ولعب ورقة سياسية في غاية الحيوية وفي الوقت المناسب؛ إذ أقنع واشنطن بضرورة استمرار نفوذهم في إيران وذلك لحفظ إيران بعيداً عن متناول النفوذ السوفيتي أو حتى النفوذ البريطاني المحتمل. على الجانب الأمريكي، عبرت واشنطن عن نيتها عدم التدخل في اختيار شكل النظام السياسي في إيران طالما أن النظام القادم سيرعى المصالح الأمريكية، وأن إجراءات تغيير النظام ستراعي المعايير الدستورية، فحسب رأي الإدارة الأمريكية فإن مراعاة الدستور القائم والعمل على حفظ تماسك المؤسسة العسكرية أمران من شأنهما قطع طريق السلطة أمام حزب تودة وباقي الفصائل اليسارية المتحالفة معه.

الاتصالات الأمريكية-الإيرانية التي حدثت أثناء وجود الخميني في منفاه الفرنسي، كانت أشبه بلعبة قمار فاز فيها اللاعب الذي لا تكشف ملامح وجهه عن نوعية الورق الذي يحتفظ به بين يديه، فبعد خروج الشاه، وعودة الخميني تحت الضمان الأمريكي لسلامته الشخصية وتثبيت أقدامه على أرض صلبة، سرعان ما أعلن أن أمريكا هي الشيطان الأكبر، وبذلك فقد أسهم سوء التقدير والإدارة وبؤس السياسة في عهد الرئيس كارتر، إلى أول نجاح للإسلام السياسي في حكم دولة من أقوى وأهم دول المنطقة، ومنذ ذلك الحين، والمنطقة برمتها تعيش أجواء التوتر والحرب الباردة، فهل ستنجح حركة الاحتجاج الشعبية في إحداث تغيير في جوهر النظام الحاكم في ايران، يرتكز على إعادة التموضع السياسي للنظام، وعلى تخلي النظام عن طموحاته الإقليمية، وانشغاله بدلاً عن ذلك، بالالتفات للاستحقاقات المعيشية للشعب الإيراني؟