سمير عطا الله 

في الاختصار، كان جوزيف كونراد مذهلاً. في القليل من التفاصيل، كان بولندياً تعلم الملاحة في أعالي البحار... واللغة الإنجليزية على نفسه وعندما ترك المياه ليستقر في بريطانيا ويكتب تجاربه قال: «سوف أعلمهم غداً كيف يكتبون». أي كتّاب الإنجليزية. وقد فعل ذلك حقاً.
قلت ترك «المياه» وليس ترك البحر، لأن روايته «قلب الظلام» عن نهر الكونغو. والأنهار مهما عظمت كالأمازون، تظل مياهها رحمة ولا تملح، في حين أن جميع أنهار العالم تصب في البحار، ولم تنجح إلى الآن في خفض ملوحتها.
من أشهر أعمال كونراد، «اللورد جيم». وهي قصة قبطان بريطاني اصطدمت سفينته بجسم غريب في بحر العرب. فلما شارفت الغرق، فعل عكس أخلاق القباطنة: تخلى وفرَّ مع بعض ملاحيه، تاركاً الركاب إلى مصيرهم. اعتقد جيم بعد فراره أن السفينة قد غرقت في النوّ الكبير، لكن الركاب استطاعوا إنقاذها وإنقاذ أنفسهم.
ظل كونراد ينفي أنه استقى الفكرة من قصة السفينة «جدة» التي كان يملكها تاجر سنغافوري وخصصها لنقل الحجاج الآسيويين إلى مكة. لكن الرواية مطابقة تماماً للحادثة. ففي العام 1880 كانت «السفينة جدة» تبحر وعلى متنها نحو ألف راكب، نحو البحر الأحمر، عندما تركها ربانها البريطاني وملاحوه للعواصف. غير أن الركاب استطاعوا الصمود إلى حين وصول باخرة فرنسية حملتهم جميعاً.
في أي حال، كانت «السفينة جدة» وملاحم المياه الأخرى، مواضيع كونراد. أما لغته فقد نهلها وحيداً من الكتب وقصائد اللورد بايرون. وقال أحد ناشري كتبه الأولين إنه عندما كان كونراد يقرأ أمامه، كانت هناك كلمات كثيرة يسيء لفظها، مما يدل على أنه لم يسمعها من قبل.
دخل كونراد الأدب الإنجليزي (والعالمي) كأحد عمالقته، مع أن الإنجليزية كانت لغته الثالثة، بعد البولندية والفرنسية، وليست حتى الثانية. ومن المشاهير في هذه الفئة فلاديمير نابوكوف، وآرثر كوستلر، وصامويل بيكت، وأوجين أيونسكو. وقد يضيف إليهم النقاد غداً أمين معلوف، الذي بدأ الكتابة بالعربية، كما قرأ الكلاسيكيات الفرنسية مترجمة إلى العربية في البداية.
«اللورد جيم» درس أخلاقي آخر من دروس كونراد. فبعدما يترك سفينته ويهرب، يتم القبض عليه ويحاكم بجريمة الجبن واللامسؤولية. وعندما تنتهي فترة عقوبته يخجل من البقاء بين الناس، فيذهب إلى إحدى الجزر الإندونيسية النائية، حيث يمضي بقية حياته متاجراً بالبهارات والأفاويه. غريب أن لا أحد يذكر فضل «جدة» على أحد كبار كتّاب الإنجليزية.