محمد آل الشيخ

 لا حديث للعرب في منتدياتهم وإعلامهم هذه الأيام إلا قضية الانتفاضة الإيرانية، وخطر إيران الملالي على الأمن والاستقرار في البلدان العربية قاطبة، وبالذات على دول الجوار بوجه خاص؛ فالكل يريدها أن تسقط لأن تراجعها عن نهجها التخريبي مستحيل، ونتخلص من هذا الكيان الذي ما زال يحلم أن يشيّع العالم العربي، ويفرسنه، ويعيد تشكيل ثقافته الدينية والسياسية كما يرغب ويريد، على ضوء نظرية (الولي الفقيه) التي ابتدعها الهالك الخميني، وأقام عليها أساس دولته، ومقتضيات دستوره.

غير أن هناك حقيقة تقول: النهج التنموي بمعناه الشامل، هو اليوم الأول الذي يقوم عليه العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، متى ما اختل أو اضطرب، فلا يمكن لأي دولة معاصرة أن تستمر فضلاً عن أن تبقى.

مشكلة رجال الدين عمومًا، والإيرانيون تحديدًا، الذين يحكمون الجمهورية الإيرانية، يجهلون هذا الأساس جهلاً مطبقًا، لأن ذلك المنطق لا تعرفه كتب التراث التي يستقون منها نظرياتهم السياسية، ويدعون الناس للاستعاضة عنها بما (ينصحهم) به فقهاؤهم، بالعمل على نشر المذهب مهما كانت الصعاب التي تواجههم، والاستعانة بالصبر والتحمل، لأنهم يطبقون نظرياتهم الأيديولجية، وهي (أولوية) مطلقة، لا تضاهيها أولوية وإن جاعوا وفقروا، فالرفاه في مقاييس هؤلاء، ضرب من ضروب الترف المذموم شرعًا. وكثيرًا ما يكون بيني وبين من يدعون إلى الدولة الدينية، كبديل للدولة المدنية، حوار ونقاشات، أحاول أن أشرح فيها وجهة نظري، ومؤداها النهائي، أن الدين، أي دين على وجه الأرض، يهمه أول ما يهمه، إخلاص العبادة لله جلً شأنه، بينما أن الأمور الدنيوية هي تلمس المصلحة، ومتطلباتها، والتماهي مع أسبابها. وما نزل على الرسول هو الدين المحض، وهو ما يجب علينا تنفيذه كما جاء به في العبادات والمسلكيات الأخلاقية، أما الدنيويات، ومتطلبات العيش والأمن وصلاح المجتمعات فمتروكة للإِنسان، حسب ظروفه، فالغاية النهائية هي تحقيق مصالح المسلمين في دنياهم، وكل ما من شأنه تحقيق العدل والإنصاف بينهم.

وهذا التصور للحياة لا يختلف مع الدين الإسلامي، بل ويتواءم معه، وهذا ما يقوله (كل) تاريخ الدول الإسلامية التي عرفها التاريخ الإِنساني.

دعاة الدولة الدينية، أو كما تسمى في الاصطلاح الدولة الكهنوتية، تطرح نظرة مغايرة تمامًا. وإيران خير دليل على ما أقول؛ فهي دولة دينية محضة، يتربع (فقيه)، أو رجل دين، على عرش السلطة فيها، وإليه ترجع كل السلطات، وأمره بمنزلة الأمر الإلهي، لأنه بمنزلة المندوب، أو الوكيل عن الإله على الأرض، وهذه صفة لا يمكن أن يقبلها عاقل، فضلاً عن مسلم، خاصة في زمننا المعاصر.

ما يجري في إيران هو في التحليل الأخير، أو هو بالمختصر المفيد رفض لهذه النظرية، التي استمرت تحكم إيران قرابة الأربع عقود، وها هو الإنسان الإيراني نفسه ينتفض رافضًا لها.

وكنت متوقعًا، وغيري كثيرون، أن أي دولة لا تخضع لضرورات الاقتصاد، ومقتضياته، بغض النظر عن عقيدة أهلها، لا يمكن إطلاقًا أن تستمر، وها هي انتفاضة الشعب الإيراني تثبت ما أقول.

إلى اللقاء