عمار علي حسن 

لم يقف المفكرون والحركيون العرب المعاصرون، على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم، مكتوفي الأيدي أمام التحديات التي يفرضها الواقع، بل قلبوها على وجوهها، ما أمكنهم، في رحلة شاقة للبحث عن منفذ للخروج من ضيق الحالي إلى براح الآتي، مستخدمين كل ما ألفوه من مناهج وأدوات معرفية، ظنوا أنها قادرة على تحقيق هذا الحلم الصعب.

وهذا التقليب أو التمحيص امتد من النصوص الثابتة إلى السلوك في حركته وجدله مع الحياة، ومن الموروث الخاص الذي أتاحته الحضارة العربية ـ الإسلامية إلى المشترك العام الذي تقدمه الحضارة الغربية، سواء إذا كانت بالنسبة للبعض في وضع التحدي الرئيسي أو بالنسبة لآخرين في وضع المكنز، الذي يمكن الاستفادة من عطائه المتجدد والمتدفق.

وشارك في هذه الرحلة فلاسفة ومفكرون وباحثون ينتمون إلى خلفيات علمية وأيديولوجية متعددة، فأنتجوا معرفة معمقة حول الحال والمستقبل العربي، أخذ بعضها شكل المشروع الفكري، واسع النطاق، المفتوح على روافد متنوعة من العلوم، وأخذ الآخر صيغة الرؤية، سواء كانت فلسفية أو سياسية، وأخذ الثالث طريق البحث العلمي المنظم المحدد الافتراضات، المقنن الأدوات. وامتزجت أحياناً الرؤية بالبحث، ولم يخل المشروع، فضلاً عن كونه بحثاً علمياً موثقاً، من رؤية.

في هذا المضمار تطل أعمال محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، والطيب تزيني، وقسطنطين زريق، وزكي نجيب محمود، ومحمد جابر الأنصاري، وأنور عبد الملك، وعلي حرب، وجلال العظمة، ونصر حامد أبو زيد، وعبد الله العروي، ومحمد الغزالي، وهشام جعيط، والحبيب الجناحي، وعلي الوردي، وعبد الله الغذامي، ومحمد أركون، والصادق النيهوم، ومالك بن نبي، وفؤاد زكريا، وأدونيس... إلخ. وتجاورها آلاف الأعمال الإبداعية في مختلف الفنون والآداب، وعشرات من الحركات الاجتماعية والسياسية، سواء كانت مؤسسات مجتمع مدني، أو منظمات حقوقية، أو غيرها، ماج بها العالم العربي منذ رفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وحتى الآن. 

هذه المحاولات الثرية تلاقت في مفاهيم وتصورات، وتعارضت في أخرى، ووازى بعضها بعضاً في الزمان، ونهل أغلبها من معين واحد، وتركت الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام أي محاولات تأتي في المستقبل، لأنها لم تدع احتكار الصواب، ولم تزعم الاكتمال بالاستدارة، بل أكد أصحابها أنها مجرد خطوات إلى الأمام على درب قد ينتهي بالعرب إلى النهضة، من خلال الوعي بالذات وقدراتها، وفهم الآخر ونواياه، والتفاعل مع المعيش في صيرورته، التي لا تتمهل أبداً، لأن عربة التاريخ تتحرك دائماً في الزمان والمكان، في المعرفة والمجتمع، من دون توقف، ولا يقتصر تحركها على تيار واحد، أو مدرسة واحدة.

ولم تنه هذه الجهود المضنية وجود بعض المعضلات، أو المشكلات، في التفكير السياسي العربي طفا بعضها على السطح بقوة في السنوات الأخيرة، وبات يحتاج تجنبه إلى بذل جهد إضافي، مع الاستمرار في المشاريع الفكرية، سواء كانت تقع مباشرة في قلب الظاهرة السياسية، أو تمسها من بعيد.

لكن العرب في العموم ما إنْ بدؤوا يفيقون من صدمة احتلال العراق حتى فاجأهم تشبث الاستبداد بموقعه بما أدى إلى تعثر الانتفاضات والثورات، ثم وها هو الجدل الثقافي والسياسي يرسم معالم جديدة في حياتهم، ويعيد إلى الأذهان، مع اختلاف في السياق وبعض الرؤى، ما حدث عقب هزيمة 1967 القاسية، التي تجاوزت حدود الانكسار العسكري إلى التحسر النفسي والانحسار السياسي والثقافي، واهتزاز الثقة في بعض أيديولوجية يوليو 1952 من تصورات قومية حملها حلم توحيد العرب من الخليج إلى المحيط، وتوجهات اشتراكية، انحازت للبسطاء وأعادت صياغة أدوات جديدة للحراك الاجتماعي. في هذه الآونة تتشكل أفكار جديدة ويثور جدل يتسع نطاقه يوماً إثر يوم، حول ما حدث في العراق ثم سوريا واليمن وليبيا وتونس ومصر... ولماذا؟ ليحفر في طريقه ملامح أيديولوجيات مغايرة أو تحللاً من أي أيديولوجيات، إن كان هذا ممكناً على المستوى النظري على الأقل. إنه الجدل ذاته، مع بعض التغير في الدرجة وليس في النوع، الذي دخل فيه العرب عقب انكساراتهم الحديثة والمعاصرة، وما أكثرها، لكن ثورة الاتصالات جعلت للشعوب دوراً في رسم ملامح المستقبل، وإن كانت خافتة الآن، فإنها ستتعافى مع مرور الوقت، وستفتح آفاق الحوار، وستنتهي ولو بعد حين لصالح الناس.